(اتفاق أبراهام).. تطبيع مع إسرائيل أم تطبيع لقيادة إسرائيل للمنطقة..؟!

بسام البليبل

لفهم أسباب تهافت العديد من النظم الخليجية على كسب ود إسرائيل، وانخراط العديد من العواصم العربية في التطبيع المجاني – سراً وعلانية – لاسيما في هذا الوقت بالذات، لابد من استيضاح نقطتين مهمتين:

الأولى: عمّا إذا كان لإسرائيل تصور استراتيجي طويل الأمد كانت قد رسمته لنفسها، والتزمت به، وحددت شروطه، وعملت عليه، لبدء عمليات التطبيع والتفاوض مع العرب؟

الثانية: استحضار نتائج الصراع العربي الإسرائيلي على مدى السبعين عاماً الماضية، ومآلاته، وتأثيره في التهافت العربي؟

وبالعودة إلى الأدبيات السياسية لمؤسس الحركة التصحيحية اليهودية زئيف جابوتنسكي، ونظريته (الجدار الحديدي)* نجدها تقوم على نقطتين أساسيتين:

1- لابد من إخضاع إرادة العرب بالقوة، وتيئيسهم من أي أمل في مقاومة الدولة اليهودية، (إلى أن يأتي اليوم الذي يجبر “الجدار الحديدي” العرب ليأتوا إلى تسوية مع الصهيونية مرة واحدة وإلى الأبد)، وهذا ما عملت عليه إسرائيل بجد، وبنت عليه عقيدتها العسكرية، مع دعم غربي أمريكي أوروبي، يأخذ بعين الاعتبار مصالحهم أيضاً.

2- العمل على إنجاز أغلبية يهودية تجعل من  فلسطين وطناً قومياً لليهود لا يقبل القسمة، وهذا المعنى لا يتناقض مع القبول بوجود الفلسطينيين على سبيل الاحتواء لا الشراكة، في دولة واحدة ثنائية القومية، يفسر ذلك ما تم اعتماده بإقرار الكنيست لمشروع (قانون الدولة  القومية)* واعتبار (القدس الكاملة والموحدة) عاصمة لإسرائيل، الذي أغلق الباب على حل الدولتين، وهذا يوضح عدم اكتراث الإسرائيليين بمناقشة (مبادرة السلام العربية)* وإسقاطها.

أمّا نتائج الصراع العربي الإسرائيلي على مدى سبعة العقود الماضية، وعبر سبعة حروب، ومدى تأثيرها على ما آل إليه حال العرب اليوم، فيمكن اختصارها بمرحلتين: 

1- ما قبل 1973 وأعني حربي 1948 و1967 التي تعرّض فيهما العرب لخيبة أمل وإذلال كبيرين  من خلال هزيمتين منكرتين ألطف أسمائهما النكبة والنكسة، حيث لم يسعف النُّظم العربية إلّا شعاراتهم المعتادة للثأر عبر لاءات الخرطوم الثلاثة: (لا اعتراف لا صلح لا مفاوضات)*

2- ما بعد 1973.. وأعني نتائج حرب تشرين التحريكية، التي أنهت مركزية الصراع العربي الإسرائيلي، بفعل الاكتشاف العبقري للرئيس أنور السادات، أنّ ثمة طرائق أخرى لحل الصراع مع إسرائيل غير الحرب ومخازيها، وأنّ ثمة شجاعة غير شجاعة الحرب نستطيع أن ندعيها ونتاجر بها، فانقسم النظام العربي المنهار إلى مهرولين ومتريثين:

أمّا فئة المهرولين فقد مسحوا أحذيتهم بلاءات الخرطوم الثلاثة فوق الطاولة، فيما أسموه سلام الشجعان، تقودهم مصر كامب ديفيد 1978، وأوسلو منظمة التحرير 1993، ووادي عربة الأردن 1994.

وأمّا فئة المتريثين، فقد مسحوا أيضاً بلاءات الخرطوم أحذيتهم ولكن تحت الطاولة، فمنهم من مارس التطبيع في الغرف الخلفية، واللقاءات السرية، وفي ظل المناسبات الدولية والإقليمية، تحسباً للحظة التي يحتاجون فيها إلى الانتقال من السرية إلى العلنية، كما فعلت الإمارات (باتفاقية أبراهام) الأخيرة.

ومنهم من تصافق* مع إسرائيل على حفظ أمن حدودها في السر، على أن يناصبها التحدي والعداء في العلن كما فعل حافظ الأسد الممانع، فصدق بالتزامه مع إسرائيل، واستحق حمايتها حياً، رغم كل الفظاعات، والتقلبات السياسية في عهده، وميتاً، عندما حرص الغرب الأوربي والأمريكي على ضمان تحويل سورية إلى أول جمهورية وراثية في العالم، ونقل الحكم إلى الوريث بشار الأسد الذي حمته أيضاً إسرائيل من السقوط مرتين، مرة في العام 2006 بعد مقتل الحريري، والمرة الثانية بعد قيام الثورة السورية في 2011 وحتى الآن.

فهل كانت القوة وحدها كفيلة بتحقيق أهداف إسرائيل، وصولا إلى دفع النظام العربي المنهار إلى التطبيع العلني المجاني، وإسقاط مركزية القضية الفلسطينية، أم ثمة أسباب قطرية، وإقليمية، ودولية تكفلت، إضافة إلى القوة الإسرائيلية، بتحقيق هذا الهدف، ولماذا الاهتمام والتركيز على التطبيع الخليجي مع إسرائيل الآن؟

وحيث أنّ الإجابة على السؤال الأخير (الاهتمام بالتطبيع الخليجي مع إسرائيل الآن) تشكل المفتاح لحل بقية الأسئلة، فإننا نستطيع أن نحصر الإجابة عليه بالنقاط التالية:

1- بعد خروج دول الطوق العربي* التي تحيط بإسرائيل من الصراع العربي الإسرائيلي، بفعل اتفاقيتي السلام المصرية والأردنية، المشار إليهما آنفاً، واتفاقية ما قبل السلام النهائي* الموقعة بين سوريا وإسرائيل 1974، والتي تعمل إسرائيل على أن تجعل منها اتفاقية نهائية، وحدوداً ثابتة بدعم أمريكي أعرب عنه ترامب بتوقيع إعلان تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بموجبه بسيادة إسرائيل الكاملة على مرتفعات الجولان*، والذي قد يكون الثمن الأخير لاستمرار النظام السوري، أو من سيخلفه.

وإذا أخذنا بالحسبان إمكانية السيطرة على لبنان من خلال التحكم بمفاتيح حزب الله، تبعاً لاحتواء إيران.. تكون دول الطوق العربي قد حيدت تماماً لسنوات طويلة من الصراع العربي الإسرائيلي، إن لم تكن قد خرجت منه بشكل نهائي.

2- اعتماداً على ما سبق، ومع الأخذ بعين الاعتبار انهيار الدولة العراقية، تبدو الساحة العربية غير محمية من الوقوع تحت سيطرة قوتين إقليميتين هما تركيا ذات الدور المتنامي في الإقليم، وإيران ذات الطموحات الكبيرة في التوسع والسيطرة، وتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة.

3- وحيث أن إسرائيل لا تستطيع ولا تملك الإرادة ولا القوة الكافية بمفردها وبمقوماتها البشرية والاقتصادية لمثل هذه السيطرة، ولأن دول الخليج وعلى رأسها السعودية لا تستطيع أيضاً مجابهة إيران، ومتخوفة من الارتدادات الزلزالية للربيع العربي، التي عملت على إجهاضه بكل السبل ولا سيما في سورية، ولأن بقاءها مرهون بالعوائد النفطية التي تهددها الاضطرابات والثورات والحروب، فإنها مهددة بالتفتت أو الانضواء تحت السيطرة الإيرانية، وهذا ما يسمح لإيران أن تتحول إلى قوة عظمى ستتسبب بالتأكيد في اختلال موازين القوى في الشرق الأوسط، الأمر الذي يشكل خطراً على إسرائيل، وتهديداً  للاستراتيجية الأمريكية في السيطرة على النفط والغاز، ويجعل من إيران قوة مزاحمة لنفوذ أمريكا ومصالحها الحيوية في المنطقة، مع ما تملكه إيران من إمكانية التحكم في الممرات الحيوية المائية، وعرقلة حرية الملاحة البحرية، وهذا ما لا تسمح به أمريكا.

4- ولأنه ليس ثمة عداء استراتيجي بين أمريكا والإسلام الشيعي وبين أمريكا والقوة الإيرانية، وفق المعطيات والوقائع الحالية، وإنما هو تحسب وقلق من الطموحات الإيرانية التي يجب أن تظل في دائرة المراقبة، وتحت السيطرة، مع السماح لإيران بالهامش الذي يرضي شيئاً من طموحاتها الإقليمية، ويُبقي على الفوضى الشرق أوسطية الخلاقة، والقلق الخليجي المحبب لإسرائيل، وتخوم شيعية قابلة للاشتعال مع السنّة، لإتاحة الفرصة للتدخل عند الضرورة، مع ما للقوة الإيرانية من دور في فرملة الطموحات التركية التي تخيف أمريكا بسبب قربها المذهبي السني، والجغرافي الاجتماعي، من الدول العربية، ولأن أمريكا تنظر إلى تركيا القوية والطامحة، كدولة مارقة، لذلك لابد من أن يظل الوضع على حاله في الشرق الأوسط، مع إعادة تنظيم للفوضى.

5- ولأن أمريكا لا ترغب في الانخراط المباشر في الشرق الأوسط بسبب تحول سياستها نحو آسيا، ولأنها أيضاً ليست معتادة على الخروج من الأماكن التي تدخلها، وتلك التي لها فيها مصالح حيوية، إضافة لما يتركه غيابها من فراغ قد يدفع السعودية وربما إسرائيل إلى أحضان روسيا والصين، وهذا أيضا مالا تسمح به أمريكا، ويجعل كل حديث عن خروجها غير منطقي، لذلك اعتمدت أمريكا سياسة الإدارة من الخلف، والتدخل الآمن وغير المكلف، عبر تحالفات دولية، وحروب بالوكالة، هنا وهناك، كما في حملتها على داعش بالاعتماد على الأكراد.

وعلى ذلك، وبعد أن فرغت أمريكا من التدمير المنظم، وتعميم الفوضى الخلاقة في المنطقة العربية، انتقلت إلى المرحلة الثانية، وهي إعادة تنظيم الفوضى وحاملها الأساسي إعادة إدماج إسرائيل بالمنطقة العربية، ومن البوابة الخليجية، بعد أن توفرت كل الظروف لإخراج الكيان الصهيوني من عقدة الغيتوات اليهودية، (ووجوده البنيوي الشاذ في الجسم العربي)، وجعله جزءاً لا يتجزأ منه، بل وجزءاً (طبيعياً قائداً) في علاقة الاعتماد المتبادل ما بين المال الخليجي، والاستثمارات الاستثنائية، وبين التفوق العلمي والعسكري الإسرائيلي وما يستطيع تقديمه في المجالات الإليكترونية والسيبرانية والطبية والتكنولوجية..

في البداية لم تكن دول الخليج ترغب في إعطاء الصبغة الرسمية لتطبيعها مع إسرائيل، لأنها كانت تعوّل على شراكة استراتيجية مع أمريكا، على خلفية الاتفاق النووي مع إيران، إلا أن اللقاء الذي تم في 13 و14 مايو 2015 مع الرئيس باراك أوباما في كامب ديفيد خيب أمل الخليجيين، فهو وإن كان قد وعد أن الولايات المتحدة ستنظر في استخدام القوة لدعم حلفائها في الخليج بعد الاتفاق الأمريكي الإيراني، إلّا أنه نصح الخليجيين في إشراك إيران في قضايا المنطقة، ولم يتردد بالقول أنّ إيران لا تمثل الخطر الأكبر لدول الخليج، وأن مشكلة دول الخليج الرئيسية ليست في إيران..؟!

رسالتان واضحتان.. الأولى تطمينية إلى إيران، لتحفيزها على إتمام الاتفاق النووي، والثانية إلى دول الخليج، تقول بأن التطبيع السري مع إسرائيل غير كاف، وعقد شراكة استراتيجية خليجية مع أمريكا لا يكون في غياب إسرائيل، وبناء على ذلك تم الانتقال في عهد الرئيس ترامب إلى طرح صيغة (تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي) التي تسمح صيغته المفتوحة في إدخال إسرائيل في هذا التحالف، الذي بدأته الإمارات العربية باتفاق أبراهام، بمباركة سعودية، وصولاً إلى شرق أوسط جديد تكون إسرائيل “أحد مكوناته الأساسية، وجزءاً طبيعياً منه” ضمن حدود إسرائيل الآمنة، وعاملاً من عوامل قوة هذا التطبيع الذي يرقى إلى مستوى “التحالف الاستراتيجي في التصدي لإيران، ومشاريعها، وأذرعها”، ولجم طموحاتها، وإبقاء قوتها وتمددها ضمن الحدود المسموحة.

كما يساهم هذا التطبيع في تحصين دول الخليج من ارتدادات زلزال الربيع العربي، وبوادر المعارضة الخليجية التي بدأت تطل برأسها في الداخل والخارج بقوة، ويحافظ على أنظمتها كما تريدها في صيغتها المشيخية التعويضية تجاه شعوبها والدول الأخرى “المال مقابل الولاء والتأييد”، مع ما قد يساهم به من تعميم هذا الخيار – أي التطبيع مع إسرائيل – على بقية الدول العربية، تحت عنوان (اتفاق أبراهام) بما له من دلالات رمزية وروحية ودينية، تذكر بالنبي إبراهيم الخليل، بحيث لا ينقص هذا الاتفاق إلا ذبيح الرؤية الإبراهيمية، الذي سيكون في هذه الحالة، الحلم الفلسطيني، والدولة المستقلة، التي ستنحر على مذبح هذا الاتفاق، دون أي افتداء هذه المرة.

بسام البليبل: محام، كاتب وشاعر من سوريا.

Read Previous

حقيقة صور بشار أسد على يخت في اللاذقية (صور)

Read Next

منظمة فرنسية تدعم ميليشيا “الدفاع الوطني” في سوريا

Leave a Reply

Most Popular