غالبا ما تتسم ممارسات النظام السوري الوحشية ببعض الخصائص الإدارية البيروقراطية، حيث تصور جثث المعذبين، وتخصص أرقام لهم مصحوبة بقوائم الأسماء.
في مقال نشرته صحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية، قال الكاتب ماجد الزروقي إن العقيد السوري السابق أنور رسلان، الذي شغل حتى عام 2012 منصب رئيس قسم التحقيقات للفرع 251، يخضع للمحاكمة منذ شهر أبريل/نيسان في ألمانيا، إلى جانب أحد العاملين معه.
في نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول 2011، وخلال مذكرة إعلامية أُرسلت إلى رئيس الفرع 251 لأجهزة المخابرات، في دمشق، أعرب قسم التحقيقات عن أسفه على عدم تعاون الضابط الشرعي بالمستشفى العسكري بحرستا مع الفرع، وكان سبب الخلاف بينهما نقل جثث المعتقلين المتوفين تحت وطأة التعذيب.
وأشار الكاتب إلى أن الفرع 251، الذي يعرف باسم “فرع الخطيب”، خصص 3 من رجاله للعمل في المستشفى العسكري للتخلص من الضحايا الذين ماتوا في مقره؛ لأن “نقل الجثث ليس من مسؤولياته”. لذلك، يطلب الحصول على مزيد من الدعم؛ لأن عدد من يموتون تحت وطأة التعذيب يكون كبيرا في بعض الأيام.
إن “الفرع 251” الذي يعد من أجهزة أمن الدولة، يقع مقره في مجمع مبان ذات طابقين في منطقة الخطيب، وهو من بين مراكز الاحتجاز والتعذيب العديدة المنتشرة في البلاد، ومنذ أن “انتفض الشعب السوري ضد الديكتاتورية في أوائل 2011، ازداد نشاط هذا الجهاز”.
استهداف النظام
وما بين مارس/ آذار 2011 وسبتمبر/أيلول 2020، لقي قرابة 14 ألفا و300 شخص (بين رجال ونساء وأطفال) حتفهم تحت وطأة التعذيب في مقر المخابرات، حسب إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ناهيك عن اختفاء عشرات الآلاف من الأشخاص منذ اعتقالهم.
وجرى توثيق الخلاف القائم بين ضباط “فرع الخطيب” حول تزايد عدد الجثث التي يتعين عليهم نقلها، ضمن الوثائق الخاصة بالمخابرات، التي تم تجميعها من قبل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير. وقد أدلى مدير المركز، المحامي مازن درويش، الذي كان أحد الناجين من سجون النظام، بشهادته في 15 و16 سبتمبر/أيلول أمام محكمة كوبلنز الإقليمية.
وجرت محاكمة ضابط الاستخبارات السابق أنور رسلان وأحد العاملين معه في هذه المدينة الواقعة غربي ألمانيا، منذ شهر نيسان/أبريل. وكان أنور رسلان، البالغ من العمر 57 عاما، قد اعتقل في شباط/فبراير 2019 في ألمانيا، وبما أنه كان مسؤولا عن تنسيق الاعتقالات والتحقيقات والاستجوابات، يتحمل رسلان مسؤولية وفاة 58 شخصا، فضلا عن اضطلاعه في جرائم تتعلق بسوء المعاملة التي تعرّض لها أكثر من 4 آلاف شخص، من أبريل/نيسان 2011 إلى سبتمبر/أيلول 2012.
ويمكن للمعلومات التي قدّمها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير إلى المحاكم الألمانية أن تقلب المحاكمة إلى مستوى يتجاوز القضايا الفردية للمتهمين، إذ يمكن من خلالها توسيع قائمة المشتبه بهم.
ووضعت محكمة كوبلنز هذه الوثائق رسميا في الملف في 4 أكتوبر/تشرين الأول، وستقدم في المحاكمة دليلا من قبل الادعاء. وفي الواقع، فإن هذا النجاح الذي حققته المنظمة غير الحكومية يتجاوز مجرد هدف مقاضاة أنور رسلان، ويستهدف النظام في حد ذاته.
العنف المنهجي
وبالاستناد إلى القوائم التي جمعتها المستشفيات في حرستا والهلال الأحمر، يوثق المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، باعتماد 103 صور، حالات المعتقلين الذين قتلوا في الفرع 251، مع إرفاق صفحتين من سجل الوفيات بالملف.
يلاحظ مازن درويش أنه “لم يكن لدى المحكمة أي دليل مادي يثبت وفاة محتجزين في هذا الفرع، وإنما فقط شهادات؛ لكن كان بإمكاننا أن نثبت مقتل معتقلين هناك، والعلاقة التي تربط بين الأجهزة الأمنية والمستشفيات”.
وتمكن المركز السوري للإعلام وحرية التعبير من فضح الهيكل التنظيمي لمركز الخطيب خلال فترة المحاكمة، ناهيك عن كشف أسماء ورتب 93 من أعضائها بينهم 29 ضابطا و45 ضابط صف و19 موظفا مدنيا. كما يتضمن الملف الإحداثيات الجغرافية لمواقع 4 مقابر جماعية بالقرب من دمشق، التي دفن فيها ضحايا التعذيب لفرع 251.
تصف الرسائل المتبادلة بين مختلف الأجهزة الأمنية العنف المنهجي المستخدم ضد المعتقلين منذ اعتقالهم حتى وفاتهم تحت وطأة التعذيب، ثم دفنهم دون الكشف عن هويتهم.
من أجل بث الرعب
وذكر الكاتب أن الهدف من الاستجوابات التي يجريها هذا الفرع ليس انتزاع اعترافات؛ بل التعذيب لبث الخوف والرعب، وحسب شهادة أدلى بها عضو سابق في أجهزة المخابرات خدم 20 عاما في الجهاز الأمني، في 12 أغسطس/آب، فإنه “لم تكن هناك إجابات “صحيحة “على الاستجوابات، حيث كان الأمر يتعلق بالانتقام أكثر من جمع المعلومات، كما أن الجرائم التي كان من المفترض أن يعترف بها السجناء قد صيغت مسبقا”.
ووفق برقية حصل عليها المركز السوري، “يشارك في هذه الجرائم الممنهجة مكتب الأمن القومي، الذي يخضع بدوره لإشراف مباشر من رئيس الدولة بشار الأسد، الذي سبق أن سلّط الضوء على مسؤوليته في منح الحصانة للأجهزة الأمنية وفرض سيطرتها من خلال مجموعة من المراسيم الموقعة بيده، وأهمها المرسوم التشريعي رقم 55، الصادر في عام 2011. يسمح هذا القانون باعتقال الأشخاص دون تدخّل من النيابة، والاحتفاظ بهم في الحجز لمدة 60 يوما قبل الاضطرار إلى إبلاغ المحكمة عنهم.
وأشار الكاتب إلى أن المركز السوري للإعلام وحرية التعبير الذي يتخذ من فرنسا مقرا له، يعمل على جمع الأدلة من شكاوى وشهادات الضحايا التي تصل إليه. وحسب بشار، العضو في فريق المحققين والمحللين، “يقع تحديد نوع المساهمات القانونية التي يمكننا تقديمها في التحقيقات القضائية، ثم التحقق من الوثائق التي يمكن أن تساعدهم في صميم عملهم والتثبت من صحّتها لكي تكون مقبولة قانونيا”.
ويضيف بشار، الذي قدّم بروتوكول التحقق من صحة الوثائق في شكل جدول بيانات أن “الأمر يتعلق بمعرفة من أصدر أو استرجع هذه الوثيقة بالضبط، وبمن مرت قبل الوصول إلينا للتأكد من أنها أصلية بالفعل”.
من جهته، أوضح مازن درويش أن “هذه المحاكمة وهذه الإجراءات هي جزء من حركة جماعية للمدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية والناجين من أجل وضع حدّ لمسار الإفلات من العقاب في سوريا”.
ويضيف درويش أن “الهدف من ذلك هو منع أطراف النزاع من اختيار حل سياسي يتجاهل كل ما حدث من خلال إصدار عفو عام مثلا”، مؤكدا أن “المركز لا يعمل بدافع الانتقام؛ بل يريد أن يجنب المجتمع السوري السعي وراء الانتقام، وفي حال لم يتم الاعتراف بالجرائم المرتكبة في حق الضحايا وحقوقهم، فلن يكون هناك سلام عادل ودائم في سوريا”.