لم تُعر السلطات السورية أهمية كبيرة للأمر سوى أنها كثفت من مراقبة أنشطة السفارة السعودية بدمشق وجميع الأشخاص العاملين فيها والضيوف الذين كانوا يترددون إليها أحياناً، خاصة وأن العلاقات السورية – السعودية شهدت فتوراً في تلك الفترة بسبب مواقفهما المتباينة من الغزو الأمريكي للعراق، وانتهت بالقطيعة الدبلوماسية عقب اغتيال رفيق الحريري عام 2005.
في الواقع، ما ذُكر أعلاه لم يكن جديداً، فالتغلغل الإيراني في الجزيرة السورية لم يبدأ في تلك الفترة، بل يرجع إلى أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، لكنه تزايد بشكل ملحوظ بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وسيطرة إيران على مقاليد الأمور في هذا البلد، حيث بدأت إيران تزيد من مد خيوط نفوذها بشكل أكثر وأوسع في المنطقة عموماً نتيجة التغييرات الدراماتيكية التي حدثت بعد إسقاط الدولة العراقية التي كانت تشكل حائط صد أمام هذا التوسع.
ويمكن القول إن هناك العديد من الأسباب التي تدفع إيران للتركيز على الجزيرة الفراتية منها: تاريخية تعود إلى عهد الامبراطوريتين الفارسيتين الأخمينية والساسانية، وأخرى جيوسياسية ترتبط بالموقع الجغرافي للمنطقة وأهميته السياسية خاصة محافظة دير الزور باعتبارها بوابة للدخول إلى سورية ولبنان وطريقا لنقل البضائع والأسلحة للنظام السوري وحزب الله اللبناني، إضافة للأسباب الاقتصادية حيث تضم المنطقة موارد ومنشآت اقتصادية كبيرة ترغب إيران بالمساهمة في الاستثمار فيها، إلى جانب هذه الأسباب ربما هناك عوامل أخرى تدفع إيران للتركيز على هذه المنطقة بشكل أكبر مثل الأسباب الأمنية والصلات العشائرية بين القبائل المنتشرة في تلك المنطقة وبعض الدول الخليجية خاصة المملكة العربية السعودية والبحرين، لذلك ترى طهران ضرورة إحداث توازن في هذه المنطقة من خلال إنشاء طبقة اجتماعية موالية لها سياسياً ومذهبياً ومصلحياً، وهو ما نجحت بالفعل في إنشائه خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ورأينا نتائجه بأم أعيننا منذ بدء الثورة السورية عام 2011 حيث استخدمت إيران الأشخاص الموالين لها في القتال إلى جانب ميليشيات النظام و الميليشيات الإيرانية وروسيا والمرتزقة الأجانب ضد أبناء بلدهم وأهاليهم.
من وجهة نظر الإيرانيين للدخول إلى هذه المنطقة كان لا بد من عملية تمهيد تبدأ بتأسيس قاعدة وحاضنة شعبية لها هناك من خلال نشر التشيع – وهو الأسلوب الإيراني المعروف- في أوساط الأهالي مستغلة تناغم المصالح بينها وبين النظام الحاكم في دمشق، ورغم أن المملكة العربية السعودية كانت تحظى بولاء مجاني من قبل أبناء المنطقة، إلا أن المسؤولين في المملكة كانوا يفتقرون إلى استراتيجية أو آلية للتعامل مع هذه المنطقة وأبنائها، واقتصرت الأمور خاصة في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز على “الشرهات الملكية” التي كان يرسلها لبعض الشخصيات العشائرية من أهالي المنطقة دون أن ينال أبناء المنطقة أي شيء منها. في حين كانت إيران تعمل وفق خطة واضحة تهدف لتشييع أكبر عدد ممكن من الأهالي وربطهم بعلاقات دائمة من خلال صرف رواتب شهرية لكل من يتبع المذهب الشيعي وتأسيس جمعيات وخلايا تابعة لها هناك، وتوزيع الكتب الدينية والشعارات والصور وإقامة أماكن خاصة بهم للصلاة وإحياء الشعائر الحسينية.
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق انتقل التنافس الإيراني – السعودي بشكل أكبر إلى العراق حيث نجحت إيران في تعبئة الشيعة في حلف موال لها في حين فشلت السعودية في مد جسور حقيقية مع باقي العراقيين لأسباب كثيرة على رأسها الاعتماد على العلاقات الشخصية بدل بناء شبكات دائمة أو نسج خيوط متينة مع بعض المكونات العراقية خاصة في المنطقة الغربية والشمالية من البلاد التي تقطنها عشائر عربية يعود أغلبها في أصوله إلى شبه الجزيرة العربية.
بعد اندلاع الثورة السورية انخرطت إيران بشكل مبكر في المنطقة من خلال الأشخاص والشبكات التي بنت معها علاقات خلال السنوات السابقة واستطاعت تقديم دعم عسكري مباشر أو من خلال الميليشيات أو الطائرات بدون طيار لقوات النظام في أغلب المعارك التي جرت في محافظة دير الزور. كما عملت على تعزيز وجودها على كافة المستويات العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والاجتماعية من خلال تكثيف وجودها العسكري ونشر العديد من الميليشيات العراقية والأفغانية التابعة لها في تلك المنطقة، والسيطرة على بعض المواقع الاستراتيجية قرب الحدود مع العراق وبناء قواعد وثكنات عسكرية فيها بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية منها. وربما من المفيد هنا أن نذكّر بما قامت به إيران في تشرين الأول 2018 حيث قصفت منطقة قريبة من بلدة البوكمال داخل الأراضي السورية بصواريخ باليستية مكتوب عليها “الموت لآل سعود” وذلك رداً على الهجوم الذي استهدف مراسم إحياء مرور 38 عاماً على بدء الحرب العراقية – الإيرانية في مدينة الأهواز، ويُعتقد أن تنظيم الدولة الإسلامية كان ينشط في المنطقة التي تم استهدافها آنذاك، وتقول إيران إنها استهدفت مجموعات جهادية تحظى بدعم أمريكي وخليجي في إشارة إلى المملكة العربية السعودية.
على المستوى السياسي والاجتماعي استطاعت إيران خلال السنوات الأخيرة استقطاب العديد من الشخصيات العشائرية الذين باتوا يترددون بين الفينة والأخرى إلى طهران طلباً للمال والدعم الإيراني وللتباحث حول شؤون المنطقة، وكيفية مواجهة الوجود الأمريكي في منطقة الجزيرة وأي نفوذ محتمل للمملكة العربية السعودية من خلال تشكيل خلايا باسم “المقاومة في منطقة الجزيرة”، وفي محاولة إيرانية أخرى لإحكام سيطرتها بالكامل على كافة نواحي الحياة في دير الزور يقود حالياً بعض الموالين لإيران شبكات لتوزيع الاستثمارات على مؤيدي التوجه الإيراني في المنطقة، وتشكيل مجموعات محلية يتم تسليحها وتمويلها وتدريبها من الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى شراء العقارات وبناء المدارس والحوزات لنشر التشيع في مدن دير الزور والبوكمال والميادين وبعض القرى في أرياف المحافظة.
على الجانب المقابل، حاولت المملكة العربية السعودية العودة مجدداً إلى المنطقة بعد انقطاع دام عدة سنوات بسبب الاضطرابات الأمنية هناك، حيث زار أكثر من مسؤول سعودي على رأسهم وزير الدولة لشؤون الخليج العربي في وزارة الخارجية السعودية ثامر السبهان ريف دير الزور عام 2019 برفقة مسؤولين أمريكيين بهدف تقديم دعم لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” بعد موجة من المظاهرات التي شهدتها مناطق سيطرتها في ريف دير الزور، ويبدو أن السعودية تراهن مرة أخرى على حليف خاسر لمواجهة النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، إذا ما أدركنا العلاقات التي تربط “قسد” مع النظام السوري حليف إيران الأساسي وارتباط العديد من قياداتها غير السورية بالحرس الثوري الإيراني، وربما تحاول السعودية إيجاد نوع من التوازن مع الوجود الكثيف للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران المنتشرة في محافظة دير الزور! لكن يبقى السؤال المهم هو هل حقاً تُحقق “قسد” مثل هذا التوازن؟ أم أن الدعم السعودي لقسد هو رسالة لدولة إقليمية أخرى وهنا نقصد تركيا التي تمر العلاقات بينها وبين المملكة بتوترات ملحوظة بسبب عدد من الملفات الإقليمية خاصة خلال السنتين الأخيرتين على خلفية الموقف من اغتيال الصحفي جمال خاشقجي على الأراضي التركية، والوضع في ليبيا والموقف من التطورات في مصر.
أخيراً، يمكن القول إنه إذا ما أرادت السعودية مواجهة النفوذ الإيراني في الجزيرة السورية فذلك يتم من خلال خطة استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار تطلعات أبناء المنطقة، وإقامة علاقات حقيقية مع المكونات الموجودة هناك لطرد كل من الإيرانيين وقسد وإدارة المنطقة من قبل أبنائها وتقديم دعم حقيقي لعودة الحياة والخدمات الأساسية للأهالي هناك.