في الترداد المضطرد لـ”سبر أغوار النفس البشرية” ما يَمغَصُ البطن، وكأن ثمة سلفية في الأدب أيضًا، لا نسترشد الطريق من دون إدراك غاياتها، وكأنه بات من الكفر تجاوز ما أسسه الأولون إلى ما هو أكثر فنية؛ ما هو أكثر احتفاءً بالفن؛ ما هو أكثر رفضًا للشكل؛ ما هو أكثر احتجاجًا على مفهوم الفن نفسه وتهديمه وإعادة تشكيله، وكلها أمور لن تحقق، كذلك، عبر لغة مجانية تستنفد طاقتها السردية في تستيف المجازات (سلفنة اللغة: قياسها على ما هو أرقى/ أقدم: الشعر)، أو اعوجاج البناء من دون أن تقترح متاهته المفترضة طريقًا جديدًا.
والحال ان جوهر الرواية الأحدث للكاتبة المصرية منصور عز الدين، هو الكذب المخلص. فالروائية تمنحك في “بساتين البصرة”(*)، ما لم تنغمس فيه أبدًا؛ رائحة الياسمين، وصور أشجار ربما لم تكترث يومًا لمعرفة أسمائها، وتحرص في الوقت نفسه على ربطك – ولو هامشيًا – بما أنت عالق في داخله: احتلال العراق، ثورة يناير، أحداث 30 يونيو؛ وكأن الورد وذبوله كلاهما وَهم، وكلاهما حقيقة، عبر حكاية “هشام خطاب” المأسور بين عالمين: معاصر يعيشه كمقتن وبائع للمخطوطات النادرة، وآخر يظن أنه انتمى إليه، تجري أحداثه بين نهايات القرن الأول وبدايات القرن الثاني الهجريين، في مجلس الحسن البصري، واعتزالية واصل بن عطاء، وما هو في صورته المعاصرة إلا امتداد لتابعهم “يزيد بن أبيه” المؤرق بأحلامه وأسئلته الوجودية.
تؤسس منصورة عز الدين روايتها، من خلال بنية متداخلة، تعتمد تعدد الأصوات، أو ما قد يبدو تعددًا للأصوات، حيث تستغرق نصفها تقريباً، في لغة منضبطة، على الرغم من تمثلاتها على ألسن شخصيات مختلفة، وكأن لسانًا واحدًا يتكلم، يظن أن رصانته كفيلة باستعادة الماضي، أو الإيحاء به، ثم لا تلبث أن تتلون في أصوات أخرى، تتحدث بها أمه ليلى وحبيبته ميرفت؛ هل كان هشام خطاب، هو نفسه: يزيد ابن أبيه، وزوجته مجيبة، وصديقه مالك بن عدي النساخ، وأستاذيه: الحسن البصري، وواصل بن بعطاء؟ أم أنه توهم انتسابه إليهم فاستعار ما ظنه لغتهم جميعًا؟ واستعار من الأول حلمه بضياع البصرة وذبول الياسمين وذنب القاتل فأغرق أمه في النيل وميرفت في لوحة شاغال وأحرق أستاذه؟ أم أن كل هؤلاء في أصواتهم الماضوية والمعاصرة ليسوا سوى هشام خطاب نفسه الغارق في متاهته الشخصية؟
ما قد يوحي بأنه متاهة، تستخدمه منصورة عز الدين، كإطار عام لروايتها، تستعرض من خلاله أزمة شك – مستترة – تنتاب شخوصها جميعهم تجاه ما اعتنقوه، وما حلموا بإدراكه، وتقودهم حثيثًا لاختبار صحته، فليست فلسفة المعتزلة، مثلًا، طرحًا فكريًا تستعين به الكاتبة لتشكيل عالمها، وإنما اختباراً لها. أما نقيضها، فاختبار تهكمي، على الأغلب، للإيمان المطلق بفكرة ووأد ما سواها، في حين يكتشف كل صوت على حدة أنه كان أثيرًا لنقيض ما اعتنقه وليس العكس. فإذا كان يزيد بن أبيه، المؤمن بمبدأ العدل المعتزلي، في اختيار الإنسان لقدره بغير إجبار، فإن حكايته تبدأ بمنام فيه حتفه من دون أن يدري، لكنه يسير طوال قصته مطاوعًا نفسه باتجاه هلاكها ظانًا أنه مَن يكتب قدره. هل كان الحلم قدره المكتوب وما فعل إلا أن يمتثل إليه؟ أم أن علم الله سابق لكلمته وما الربط بين الحلم ووقوعه سوى تجسيد ذلك المبدأ المعتزلي؟
تُصدّر صاحبة “ما وراء الفردوس” روايتها باقتباس من “ابن سيرين” للحلم الذي سيشكل لاحقًا عالمها، لكنها لا تستخدمه كدافع سردي فحسب، وإنما تستقي منه أيضًا تقنيتها الحكائية، كعالم منفصل وإن استعار علاماته من الواقع، تقدم كل شخصية نفسها للقارئ كأنها قادمة من عالم آخر، وكأنهم صدى، أو موتى كلهم، وما محاولتهم للتعريف بأنفسهم إلا رغبة منهم للتحقق من أنهم عاشوا بالفعل حياة سابقة. تنساب لغتهم في سردية فردية، تكشف تفاصيل قد تبدو نمطية، لكنها سرعان ما تنحسر عن مفارقة مدهشة، وكأنها تزم شفتيها عاتبة على سابق الظن بعاديتها.
ومثل إيمانها بما سبق وما اعتنقته من أفكار/أحلام، تزعم كل شخصية من شخصيات الرواية امتلاكها فهمًا عميقًا بالأخرى التي تشاركها أحداث حكايتها، لكنه ادعاء سرعان ما يتهاوى عندما تمسك تلك الأخرى بدفة السرد لتمارس اللعبة ذاتها، وكأن الغاية – أيضًا – من تعدد الأصوات (بالإضافة إلى منح صفة السارد احتمالات متعددة)، ليس تقصي الحقيقة عبر تمثلاتها المختلفة، وإنما رصد ما يمكن أن يمثله ذلك الجهل بالآخر من مفتاح لقراءة الذات، وكأنما نُعرّف ذواتنا بمقدار ما نجهله عن الآخر، أو بما نراكمه من ادعاءات لمعرفتنا به. هل استطاع هشام خطاب – حقًا – اقتفاء أثر ذاته في سواها؟