سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل الخامس عشر من رواية حـيـنَ نُـفِـخَ فـي الـصُّور:
غالباً ما كان أبي يحكي لي حكايةً قبل النوم، من تلك الحكايا المُخَدِّرة..
أتذكر تلك الحكايات عن شعبٍ يسميه أبي شعب التراحيل. والذي كان يسكن في جبل قاف. كان ذلك شعباً غاية في العجب: كل فردٍ فيه ضد الجميع، والجميع فيه ضد كل فرد. فإن لم تمكر بمن تستطيع إليه سبيلاً، وإن لم يُمكَرَ بك، نُفيتَ من الشعب، ونُبذتَ مذؤوماً مدحوراً. كان شعب التراحيل يَعُدُّ الإفناء بطولة، والبطولة في إفناء كل شيء من حولهم. وكانوا يرددون ذلك كل يوم، كما يرددون صلوات متبتلة في محراب. ويبررون ذلك بالقول:
ــ لو لم يكن كل فردٍ فينا ضد الجميع، وضد كل شيء، لهلكنا وانقرضنا منذ زمن طويل، ولما بقيت منا بقية..
ثم يتابع أبي خاتمة الحكاية:
ــ إن مررت اليوم بتلك البلاد، أو عبرت من وسط ذلك الشعب، فلن ترى منه أحداً اليوم.. لن ترى إلا جثة فارسٍ وحيد قد مات في تلك السهوب. وعلى مقربة منه، جثة فرسٍ وِرْكُهُ ألْحَمُ من تُرْسِ فارسِهِ؛ وقد مات من الجوع.
أو ترى قرى فارغة. فارقت ناسها، ولفظت أنفاسها. أو ترى مقعداً قد خلا، وتركَهُ عاشقانْ. على مِحجرٍ للصخورِ التي نسجت، في شقوقها، من خيوطها العنكبوت. أو سوى شاطئٍ موحشٍ تسكُنُهُ جنيةٌ، لا يعرفها إلا الأطفال الصغارِ..
وحين شببتُ عن طوق الطفولة الأولى قليلاً، سألتُ الشيخ عبد الواحد عن شعب التراحيل الذي يسكن في جبل قاف. فهز رأسه بحماس، وهو يشرح لي المزيد:
ــ إنها ليست حكاية خرافية يرويها الآباء لأطفالهم قبل النوم.. بل هي حكاية حقيقية.
ثم راح يفسر الأمر بطريقته المعهودة:
ــ حين استُعْرِضوا أمام الربانيين، وعُرض عليهم الذكر الحكيم من قول الحكيم:.
{ولا يَمْلِكُ الذين يدعونَ من دونهِ الشّفاعةَ، إلا مَنْ شَهِدَ بالحقِ وهمْ يَعلمون}. كانوا في ذلك طرائقَ قِـدَدَاً: فمنهم منْ لم يتبينوا الشفاعةَ ولم يشهدوا بالحق. ومنهم من شَهِدَ مشهدَ الحقّ، ولم يشهدْ مشهدَ الشفاعة. ومنهم من شَهِدَ مشهدَ الشفاعة ولم يشهدْ مشهدَ الحق. ومنهم من شهد المشهدين، وكان ممن لا يعلمون. ومنهم من لم يشهد المشهدين، وكان أيضاً ممن لا يعلمون، ومنهم من شهدوا بالحق ولم يملكوا الشفاعة. ومنهم يعلمون، وما شهدوا. ومنهم لا يعلمون، ولا يعلمون بأنهم لا يعلمون.
وختم يقول محذراً، وهو يشدد عليّ بسبابته:
ــ نحن مجانين الله.. فاحذر من السوى أن يسرقوا جنونك في غفلةٍ من وقت.
فتساءلت بسذاجة صبي غرٍّ أبله:
ــ ولكن لماذا هلكوا جميعاً؟ ألم يكونوا يصومون ويصلون مثلنا..؟
فأجاب موبخاً، متسخطاً على ما قلت:
ــ بلى.. ولكن يا بني؛ صلاةُ الدلوكِ راتبة، وصلاةُ العشق فريضة. وللعشق رسومٌ وضرائبُ تستطيعُ أن تُسدِّدَها في بوارقِ التأملات.
***
{…. وخلال أيام بعدها، رأى أهالي المكان شاباً يافعاً، بندوب في وجهه وبخنصريه المقطوعين، وقد استعاد عافيته من جديد. في تلك الفترة قرر أن يستبدل اسمه، فادعى بأن اسمه هو قداح القزويني. ولعله تذكر أحداً في السجن يحمل الاسم نفسه، فارتجله بالسليقة دون تفكير أو تخطيط.
كان قداح (أو قتيبة سابقاً)، يعيش في الخانقاه الذي بناه أحد الصوفيين المشتهرين في البلاد. وفي بعض ساعات يخرج فيها إلى المساجد القريبة والأسواق الصغيرة، فيجلس
دائماً في زاوية مظلمة. وعلى هيئته وجوم مراقب، يوحي للرائي الذي يراه لأول مرة، بخنصريه المقطوعين وتجاويف عينيه وخسف خديه، أن أشياء كثيرة حدثت لهذا الشخص، حتى ألف الجميع مظهره، واعتادوا على مظهره الصموت المتلصص في الزاوية.
كان إذا ما تحدث يسأل جلاسه غالباً عن سيرة الفضيل بن عياض، الذي كان قاطع طريق بين سرخس وأبيورد، قبل أن يصير قبلة الصوفيين في خراسان، فيحفظ ويتفكر ويشرد طويلاً، ثم يعود إلى زاويته وعلى ملامحه استغراب شارد. أو تراه ممسكاً بصحائف خطت عليها بعض أشهر أشعار الصوفية في الزمان. كان يحاول القراءة رغم أنه لم يكن يجيد القراءة ولا الكتابة إلا بصعوبة مجهدة.
إلى أن جاء يوم اختفى فيه الفتى قداح ذات ليلة، خرج ولم يعد. وظلت زاويته الكئيبة شاغرة لا يجلس فيها أحد. وفي يوم ما، وفي مجلس القضاء، جيء بشاب يقاد في إحدى القضايا.
رفع الحضور جميعاً رؤوسهم، فإذا بهم يرون الشاب قداح، وكان قد سُجن منذ أيام، فابتدره القاضي بالسؤال إن كان يقرُّ بما فعل؟ فقال قداح بنبرة تخلو من المبالاة:
ــ نعم.
فسأل القاضي:
ــ إذن تُـقرُّ أنك كنت تسرق الأموال من جيوب المصلين والسابلة في الأسواق؟
رد قداح بنفس نبرة الصوت المستسلمة اللامبالية:
ــ نعم.
فتطوع أحد أفراد الشرطة المرافقين له، ليبلغ القاضي بأنهم اكتشفوا أيضاً أن اسمه ليس قداح، وإنما قتيبة. لكن قداح قال معترضاً، بغير اكتراث أو جزع:
ــ حتى قتيبة ليس اسمي الحقيقي.
فسأله القاضي:
ــ إذن فما هو اسمك الحقيقي؟
غمغم قائلاً:
ــ لا أعلم.
فصدر بحقه حكم مخفف من القاضي. حكم بالسجن لمدة من الوقت.
في السجن رأى في نومه الشيخ ياكتين يناديه. وخيل إليه بأنه قد شلَّ أو لزمه خرس مانع عن إجابة ندائه. والشيخ يهاتفه بلهفة، لكنه لا يراه. واستمر يحثه قائلاً:
ــ نادِني إن كنتَ بحاجةٍ إليَّ، وإنْ لم تكن بكَ حاجة إلي. لا لأني قريبٌ. ولا لأني بعيدٌ.
بل لأني أريدُ أن أسمعَ صوتَك، فإني أحبُّ أن أسمعَ صوتَ أحبائي..
ثم صمت ملياً، وتابع يقول له:
ــ الصمتيةُ دارُ خزائني، والنطقيةُ دارُ خزائِنِكَ، فإذا أردتَ أن تجمَعَهُما في مجْمعٍ.. فأنْطِقِ الصامت .. وأصمتِ الناطق.. أنجمعْ لكَ، وتنجمعْ لي في دارٍ واحدةٍ.
ثم صمت قليلاً. ورجع يقول:
ــ إذا أردتك أن ترانيَ في شيءٍ محوتُ لكَ معناه، وأثبتُّ لك معناي فيه، فدللتكَ حيث لا دلالة، وأثبتُ نفسي في معنى المعنى.. بحيث تراني ولا ترى المعنى.. فغِراسُ الكَذِبِ ليس في أنْ تختارَني وأن أختارَكَ.. بل في أنْ تختارَ لي وأن أختارَ لكَ..
فقال قتيبة:
ــ إنه السجن.. أفظع ما تفتق عنه عقل الإنسان من شرور..
ــ ثمةَ في هذهِ الأرضِ قمَمٌ سامقةٌ وأغوارٌ سحيقةٌ.. أعلى ذُرى السامقاتِ فيها الصفحُ عن الآخرين.. وأعمقُ لُجَجِ الغائراتِ فيها.. هم أولئكَ الآخرون.
فصمت قتيبة مستسلماً لومضات قلبه. فقال الشيخ:
ــ إذا وقفتَ بين يدي وعرَّفتَني بنفْسِكَ.. أو جالَ في خواطرك أن تُعُرِّفَني بنفسِك.. فقد شككتَ بي….}
***
بدا لي في “طقس العبور التحولي”..
وألهَمَني:
التحولُ من الشكل إلى الشكل، ومن المضمون إلى المضمون، ليس تحولاً. وتحولُ الواحد إلى الكل، والنور إلى الظل، هو تحول الهواة والمبتدئين. فطقس العبور التحولي، يعني أن تلقي بكل ثُقلِ إلهاماتك على روح العقل، لا على عقل الروح.
وألهَمَني:
التعابيرُ إما أن تُصاغَ من شذور الذهب، أو أن تُصاغَ من عَطَنِ التراب. فالحرفُ إن نطق وإن صمت يدور حولي ولا يقربني. والحرفُ إن نطق وإن صمت يصلُ إليّ ولا يتصل بي، والحرفُ إن نطق وإن صمت يباضِع بضاعتي ولا أباضع بضاعته. فالمعرفة من بضائع التحقق، والتحقق ليس من بضائع المعرفة.
وألهمني:
سلني كل شيء يختص بك، ولا تسلني عن شيء يختص بي. ولكن متى ما علمت أنك أثمن من كل شيء، فقد حُزتَ أنفسَ ما يُعلم.. عندئذٍ لا تسلني شيئاً ولا تطلب مني شيئاً.
وألهمني:
ليست معرفتي فقهاً ولا تأويلاً، فإن فقهتني أو أوّلتني فعدْ من حيث بدأت.