سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل الثامن من رواية
حـيـنَ نُـفِـخَ فـي الـصُّور
استسلمَ القلبُ أخيراً للصلْب والصليب. وتآخت العينُ مع منظر الجلاد والسيف. ومع المَشاهد اليومية لممثلي الأمم، التي تنوي أن تفكر ذات يوم بالعدالة.
أنَّى سرتُ أتحسسْ قَدَراً كئيباً يلفني، وأكادُ أشعر بعظام الميتين، وهي تتكسرُ تحت خطواتي، وثمة متصوفة قدامى منقرضون، يُسدون إليَّ بنصائحَ مُغَلَّفة بعبارات غير مفهومة. لو لم يُصلَبِ المسيحُ لما كان مسيحاً.. لو لم يُصلبِ الحلاجُ لعُدَّ درويشاً عادياً من خليقة الله البسيطة. لولا آلامُنا الجِسام، ومحنتُنا في هذه البلاد المنكوبة، لما اكتشفْنا ذواتنا. ولما اكتَشَفَنا أحدٌ. ولجهل أكثر العالمين؛ في أي موضع نقع على الخارطة.
لم يبقَ إلا مشهدُ الإعدام، الذي يظهر قبله وبعده فاصل الإعلانات المنشط. والذي تتفاخم فيه “فرامة بصل” حديثة مُجَرَّبة وممتازة الأداء. تعرضها وتستعرضها لنا النساء المبتسمات الجميلات.. تلك الأشياء التافهة التي يسمونها التفاصيل.
لم يبقَ إلا شموخ الهوان وهوان الشموخ. وأصوات الله أكبر. وحيَّ على البلاد التي قهرتها وأهرمتها التجارب والمحاولات.
لم يبقَ إلا المرايا التي تجلدنا بسوط وجوهِنا كلَّ صباح. ونشيدٌ حماسيٌ لم يعدْ يُفْطَنُ إليه أو يتذكره أحد لكثرة تكراره.. وحرصُ بعض الأطفال الملصقي وجوهَهَم بزجاج الشبابيك، أن يعدوا أعمدة الكهرباء في ذروة سير القطار. وصفحاتُ الوفيات والقتلى وهي تكاثر وتتكاثر بأسماء وأعداد من ماتوا، ومن ينتظرون الموت عما قريب.. وتصريحٌ يبهج القلب، لشاشة تلفزيون رصين وقور، يبشرنا بأننا ـ احتمالاً ـ قد نبقى أحياءً ليوم، أو يوم وربع يوم إضافي.
أسيرُ بصحبة أبي ناحيةَ زاوية الشيخ عبد الواحد. تندرجُ المقبرة اللاحبة الأرجاء عن يمين الزاوية، بينما تتناثر بيوت الطين، والأطفال اللاعبين في الدروب الضيقة المُغبرَّة. وحدها زاوية الشيخ عبد الواحد، كانت مشيدة من حجر الكلس القاسي والكبير الحجم. غُرُفاتُها
الكبيرة تُسَعِّرُ الخيال، وتستنزل متعة الروح التواقة إلى المجهول. والأشجارُ ونباتات الزهور المتنوعة، تحيط بأسيجتها التي تشبه المتاهة، فينثالُ منها كلُّ عبق الطبيعة الملهِم.
قال أبي للشيخ عبد الواحد، بمخارج حروف عمَّدَها بالتبجيل والتوقير الصريح:
ــ ابني محمود يريدك أن تُحَفِّظَهُ المصحف الشريف يا شيخ عبد الواحد.
فيبتسم الشيخ الستيني في وجهي مشجعاً ومُرَحِباً.
يضيف أبي:
ــ محمود لا يبتغي إلا خدمة الزاوية، وأوليائِها الصالحين.
ينظرُ الشيخ في قلب عيني، وكأنه يتفحصُ أبيضَ ما في البياض، وأسودَ ما في السواد في قلب العين. ويقول مردداً بحبور خالطه بعضُ الأسف والحزن:
ــ حين قال لنا: {سيروا في الأرض، فانظروا كيف بدأ الخلق}، لم نَسِرْ.. وحين قال لنا: {انظروا ماذا في السماوات والأرض، وما تغني الآيات والنذر..}.. لم ننظرْ..
ثم قال لي الشيخ عبد الواحد:
ــ يا بني؛ إمضِ على بركة الله.. فإن أنا قلت لكَ “إمضِ”، فلا تختر أن تمضيَ في سمت المشاهَد بالباصرة، ولا الموقوفِ على عقل، ولا المعايَنِ بآلة العين.. فإنّ “إمضِ” ليس لها تَعَيُّن..
ثم التفتَ متجهاً بالخطاب صوب أبي، قائلاً:
ــ وحين قال لنا: {لعلهم يفقهون}، ظن أهل الظنِّ منا، أن وسائل العقل كلها في النقل. ففاتهم اليقين. وحين قال لنا: {أفلا تعقلون}، فتح لنا باباً وطريقاً إلى اللانهاية، فلم ندخله، فأغلقه على من أبى دخوله. وأوحى إلينا القول: لن أفتحه لمن أبى دخوله بعد اليوم أبداً.
ثم استتبع بالحديث وهو ينحو بالكلام قصدي:
ــ يا بني.. إذا خدمت هذه الزاوية، فإنك تخدمها لتمضي. فإن مضيت، فصدّقتَ كل ما ترى
فأنكر عينيك. وإن صدّقتَ كلَّ ما تسمع فأنكر أذنيك. وإن صدقتَ كل ما يقال فتنكر لعقلك. وإن صدّقتَ كلَّ ما يُكتب، فلا تقرأ حرفاً واحداً بعد ذلك أبداً. ولا تمضِ بعدها أبداً.
في الوقت نفسه، وفي ركن بجانبنا، كان المنشدون من أهل الحضرة يصدعون بالأناشيد المبتهِجة، والمُبتلة بعبق المساء الثمل، وروائح البخور التي راحت تعطر المكان بعطر الخلود، مرددين:
مرحبا بجدّ الحسينِ.. مرحبا .. مرحبا يا نور عيني.. مرحبا
فيتجاوب الصدى بترجيع المنشد عليهم بصوته الشجي:
أرسل الله المُشَفّعْ.. مرحبا * صاحبَ القدْر المُرفعْ.. مرحبا
فملا النورُ النواحي.. مرحبا * عمَّ كلَّ الكون أجمعْ.. مرحبا
***
{…. باغتتهما فجأة عاصفة ثلجية غير متوقعة الحدوث. دهمتهما على غرة عاصفة كطوفان أبيض، في مشهدٍ هائلٍ، كأن بحراً أمواجه تشبه الرغوة قد انحطم فوقهما. فملأ الطوفان كلَّ ذلك الفراغ بين السماء والأرض. ثمَّ طفق يزحف نحوهما من كل الاتجاهات. فلطا كلٌّ منهما قرب أقرب صخرة أو جذع شجرة. وحين وصل طوفان الثلج تطوحا في ذلك العراء، ثم طاحا في بحرٍ انعدمت فيه كلُّ إمكانيةٍ لرؤية ما حولهما.
هَوَّمت ثمَّ رؤى كابوسية تثير الحزن والقنوط. وأفكار تغلفها آلام غير جسمانية الطبيعة. وندوب أحلام مزعجة لا تزول آثارها إلا على إثر صعوبات الانتقال من مكان إلى آخر، وحيث ليل المغارات والتنقل بين الكهوف كان يُقطع طوله الثقيل البارد والطويل،
باستذكار مرويات ذائعة على ألسنة الناس. ولقد روى له رفيقه أبو فرعون الساسي، كيف كتب الفردوسي العظيم كتابه الشعري الخالد: “الشاهنامة”..
كان الساسي يتحدث بهدوء مفرط، ممزوج بالألم والمعاناة. (حتى خيل لقتيبة للحظات أن روح الفردوسي قد حلت في جسد الرجل، فوق حلول روح أبي فرعون الساسي). ولَكَم أعاد عباراته نفسها وهو يبدي إعجابه الكبير بكتاب “الشاهنامة” أو “كتاب الملوك” الذي كتبه الشاعر منصور الفردوسي، والذي وصفه أكثر من واحد بأنه بمثابة “قرآن الفرس” في اللغة والأدب والبلاغة.. لما صور فيه الملاحم العظيمة لأمجاد بلاد فارس منذ نشأتها وحتى نهايتها.
لقد خطه الفردوسي، فأخذ من عمره، في تأليفه، خمساً وثلاثين عاماً، وكلُّ همِّه أن يقدمه إلى أمراء بني سامان في خراسان. والكتاب يحوي قصصاً وحكاياتٍ وملاحمَ مكتوبةً شعراً، ويغطي حقبة استدامت لألف عام. وعن معاناته في تأليف هذا الكتاب قال الفردوسي:
ــ كنت أموت خلال هذه السنوات الخمسة والثلاثين، ولكن كان عليَّ إحياء اللغة الفارسية. لذلك واصلت عملي فيه لأن واجبي نشر بذور هذه اللغة وحكاياتها.
وحين أهداه الفردوسي للسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي، وكان قد وعده بدينار
ذهب عن كل بيت كتبه فيه، لم يستحسن السلطان محمود الكتاب. وقلل من فضله عنده أنه كان يمجد أعداءه السامانيين، الذين ظل في حروب معهم حتى قضى على دولتهم. بينما الكتاب يُستهل بمدحهم. وفوق كل ذلك تعرض الفردوسي وكتابه الشاهنامة
لدسائس المنافقين والحاقدين، من حساده في حاشية السلطان وقصره.. لذلك كله منحه السلطان ـ على مضض ـ عشرين ألف درهم فضة. وهو ثمن بخس لما بذله الرجل من جهد في الكتاب، وعندما وصلت هدية السلطان وماله للكاتب سخر منها، ووزعها بطريقة مهينة على سكارى الخمارات. ثم نظم أبياتاً من شعره في ذم السلطان الغزنوي، قائلا فيها:
“إن السماء لن تنسى الانتقام، فانكمش أيها الطاغية من عباراتي النارية، وارتعش من غضب الشاعر”.
ويقال بأن الفردوسي فرَّ هارباً من بطش السلطان محمود الذي استاء بدوره من الهجاء، واعتبر ذلك تشهيراً بعرضه على أفواه الناس، وقرر أن يتراجع عن العقاب ليمحو ما قد يعلق بتاريخه نتيجة سخطه هذا، لكن الشاعر كان قد مات مطروداً وشريداً وفقيراً. في حين كان يستطيع كتابه الساحر والبديع أن يحقق له كل أحلام الثراء والمكانة العالية، ويقال بأن السلطان بعث بمبلغ طائل من دنانير الذهب الخالصة
إلى الفردوسي، لكن حامل الهدية عندما دخل المدينة كانت جثة الفردوسي تخرج متجهة ناحية المقابر. فكانت المأساة الكبيرة للكاتب والسلطان معاً….}
***
وبدا لي في “البحر”..
وألهمني:
إذا رأيتَ المركبَ في ساحلي فلا تُبحرْ به، وإذا رأيتهُ يَمخرُ عُبابي فلا تُبحرْ به، وإذا رأيته يناطحُ لُجّتي فلا تُبحرْ به ، وإذا رأيته يتحلّلُ ثم يتفتتُ ثم تذروهُ الريحُ كالهشيم، ثم ينعدمُ.. فاصعدْ إليه وأبحرْ إلي..
وألهمني :
إذا احتجتَ إلى المجاذيف وأنت على ظهر المركب، فانزل عن ظهره ولا تُبْحِرْ . فكلُّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه، فاضمنْ لي أن لا تعبأ بماضٍ ولا بمستقبل، أضمنْ لك طائركَ.
وألهمني :
الانتصارُ أن تتعرفني وأتعرفك، وإن خرجت خائباً مدحوراً في نهايات معركة الحياة. فرتبْ مشاعر الخيبة بما يتوافق مع حضوري وغيابي، كما ترتب أوراقك المبعثرة. وألهَمَنِي:
إذا حدثك قلبك بأن أول البَدَوَات سوف يلتقي مع آخر الإلهامات، كالدائرة. فقد مُلئتَ من العلم بما يزيد عن حاجة إنسان. فازهدْ فيما يُدرك ويُترك، واتبع ما لا يُدرك ولا يُترك. فبهاء الإشراق في غروب المعارف، وبهاء المعارف في شروق المواقف. فإذا أردت التثبت من شروق المواقف، فافحص ندامتك، فإن وجدتَ لها أثارة باقية، فعُد من
حيث بدأت..
وألهمني :
الخيبة جزء من الخطة.. وليست فشلاً لها أو خروجاً عليها.
وألهمني :
الخيبات الطارئة آمال واعدة.. تتعرف عليك بيقين، وأنت تنكرها بظنون.