استنكار واضح من الكونغرس الأمريكي بعد استقبال الصين لرأس النظام السوري
حـيـنَ نُـفِـخَ فـي الـصُّور

سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل الثاني
أستيقظُ قبل شروق الشمس بقليل. أنظرُ ببصرٍ من حديدٍ إلى مئذنة الجامع القديمة. والتي لا يفصلُها عن بيتنا إلا الشارع الترابي الضيق. أشمُّ رائحة شجرة “العَقّابية” الضخمة، التي تملأ فناء البيت. تفغمُ رائحة الصباح أنفاسي، بينما عيناي مثبتتان في أعلى المئذنة، حيث اعتدتُ رؤية المؤذِّن الضرير “عطية”، وهو يصدحُ بصوته المتماوج نحو أمواج اللانهاية. فأهتفُ بدهشةٍ مستريبة، متسائلاً:
ــ لماذا المؤذن “عطية” لا يجهرُ اليومَ بالأذان لصلاة الفجر من أعلى المئذنة؟
فيأتي صوت أمي ساخراً بتحبب:
ــ ليرزقَك اللهُ الحج والناس راجعة يا محمود.. الشيخُ أذَّن الفجر قبل ساعتين أو أكثر، ثم انصرفَ إلى منزله.
وذات مرة سألت أبي، وقد اعتصرتني قبضة الشفقة التي تعتصر القلوب، على المؤذن الضرير:
ــ أهو أعمى منذ الولادة يا أبي، أم أصيب بمرضٍ ذهب ببصره بعد ولادته؟
فيجيب أبي جواباً، لا يشرح أيَّـاً من تساؤلاتي، ولا يفسرُ شيئاً:
ــ إنه يرى بنور القلب يا محمود.
ثمَّ أضاف:
ــ مضت التقاليدُ في سنن الأولين والآخرين، أن يكون المؤذن كفيفاً على الأغلب، حتى لا يطَّلع على عورات الناس.
أصوات العصافير أكثر ما تكون مٌسقسِقة في الصباح. يوماً ما، شرحت لي أختي بعض ما أجهل عن الطيور، قائلة:
ــ هذا لا يسمونه عصفوراً.. اسمه أبو الحناء.
أختي وصال تكبرني بأربع سنوات، وكانت تعتبر سنواتها الأربع رأسمالاً وكنزاً من
المعرفة التي تمتلكها ولا أمتلكها. لقد كانت أماً ثانية صغرى.
***
{…. هرب “بكتوزون” إلى نواحي جرجان. فأرسل محمود القائد أرسلان لكي يقضي عليه، فذهب أرسلان إلى جرجان، وحين اقترب منها هرب “بكتوزون” إلى هَراة، فولى السلطان محمود أرسلان على طوس، وسار إلى هَراة.
وعندما علم “بكتوزون” بمسير محمود إليه، ترك هَراة وتوجه إلى نيسابور واحتلها، عندها عاد السلطان محمود إليها، فهرب “بكتوزون” إلى مرو ونهبها. ثم ذهب واستقر في بخارى. (كانت بخارى خارج حدود مملكة السلطان محمود، فاستقر محمود في خراسان وترك مطاردة “بكتوزون”).
أزال السلطان محمود الدولة السامانية، وخطب في الدولة للخليفة العباسي القادر بالله. وبالعودة إلى خبر قتيبة وما كان من شأنه، فإنَّ بعض تلك الروايات تجعله مجهولَ النسب. مُعدماً من كل ما يبُاهى به؛ فلا علمٌ ولا أدبٌ. ولا حسبٌ ولا نسبٌ. ولا دينٌ ولا مالٌ.. مجهولٌ مستنكر الحضور أينما حضر. وفوق كل هذا، لم يرزقه الله إلا دمامة الوجه، وغلظ المظهر والسمت. ولا رادّ لأمر الله ومشيئته.
كان كريهاً ومستكرهاً. ولكن يُستثنى من كل ذاك، ما وُصِف بأنه كان له عينان واسعتان، تحدقان في فضاءات المكان أينما حل أو رحل. ولقد ذكره بعض أهل التاريخ والأثر بروايات كثيرة. وورد ذكره في كل مرة بأسماء مختلفة. جميعها سقط منها اسم أبيه أو أجداده الذين يرجع بنسبه إليهم. كانت جميع ألقابه وأسمائه، لا مرجعية لها إلا مرجعية الأمكنة التي سكنها أو أقام فيها.
وتُلَمّحُ أكثر المرويات بأنه ابن زنا لم يُعرف له أب. وبعضهم أرجعه إلى العرب الطائيين، ولم ينكر عليهم أحد هذه الرواية. وذكر صاحب كتاب “تاريخ خراسان” في بعض رواياته، أن قتيبة فاخر العجم مرة بأصوله العربية، فلم يتهموه ولم يردوا عليه، أو ينكروا نسبه. ومثلما اختلفوا في نسبه فقد اختلفوا في نشأته المبكرة، حيث لم يكن في نظرهم، أكثر من قاطع طريق مشتهرٍ، ذاعت شهرته، بين تعاريج جبال “ألبرز”، التي تمتد على امتداد خراسان.. لا شيء مهماً أكثر من ذلك..
كما اتفقت المرويات (وكما اختلفت أحياناً)، على أنه حارب مع وضد الغزنويين. وحارب مع السلاجقة وضدهم. وحارب مع البويهيين وضدهم أيضاً. وكما اختلطت سيرة مشاركاته الكثيرة في الحروب، الغزنويين والبويهيين وغيرهم، كذلك اختلط لدى الرواة بين سيرته وسيرة غيره. فاشتبكت الروايات ولما تتآلف السير والأخبار والعبر.
ولا ريب عندي أن كثيراً من التخرصات والأكاذيب قد خالط سمُّها دسمَها. و مرجع مبتدأ الحكاية حينما قرر السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي غزو كشمير، ما بين عامي 407 – 409 للهجرة.
ظلت كشمير متعذرة سنوات عدة على الفتح، في وجه السلطان الغزنوي الفاتح. وذلك بسبب برودتها ووعورتها. وكان السلطان محمود الغزنوي قد خرج بجيش كبير من عاصمته غزنة. ولقد ذكر النقاش والدهلوي وغيرهم بأن الشتاء قد تقدم عن وقته وأوانه في تلك السنوات، وفي ذلك العام بالذات. كان شتاءٌ قاسٍ، لم تُعهَد مثله من قبلُ عواصفُ ثلجية. وحيث صفائح الجليد المتجمد ضربت كل ما صادفته من جبل وسهل ووعر. كل ذلك لم يمنع السلطان محمود الفاتح، ولم يثنه عن تصميمه العنيد، في أن يجتاز السهول التي غمرتها برك الوحل والجليد، ولا أن يخترق تلك الجبال التي استغلظت واستوعرت حتى غدت عصيَّة على الإنسان والحيوان.
كانت تفوح روائح النتانة من العشب الذي غمره الطين والجليد. فلا تلمس العين في تلك السهول الفسيحة، إلا السمرة المتيبسة في الوجه، التي لا تكف الرياح الباردة عن لفحها وسوطها بسياط الثلج والجليد. حتى ليكادَ كلُّ حيٍّ من بشر وحيوان، أن يتيبس وأن يزداد سمرة وازرقاق إهابٍ وسحنة.
الثلوج تسد الثلمات الفاغرة بين منعرجات الجبال وأخاديد السهول. وفوق الثلوج ثلوجٌ جديدة سدت كل أفق في منافذ الجبال. أما البطاح فقد راكمت من الجليد ما لا يُنتظَر ذوبانه لأشهر. وسوف تظل منتظرة حتى يغمرها الصيف القادم (إن كان هنالك من صيف قادم بعد).
الجند والعربات والخيل كانت تسير متفرقة، تتلمس صوى الطريق، محاذرة كل انهدام أو حفرة من حفر الهاويات الكثيرة المنتشرة والفاغرة. وعشرات آلاف من المحاربين باتوا يملؤون تلك السهوب الثلجية الموحشة. وطفقوا كالجراد يصعدون في صعيد الأرض. وما أكثر ما كان يوقف مسيرهم قطْعُ نهرٍ جليديٍ، أو ممرات جبلية ضيقة، لا يُعرف إن كان ما تحتها رهواً ليِّناً يوشك على الانهيار فجأة، أو كان من خشونتها ومقدار صلابتها، ما يثبتُ تحت أقدام الجند العابرين.
ولكن لا شيء يفوق غبش السديم الذي تُحدثه نُدف الثلج الصغيرة، حينما تواصل الهطول لأيامٍ، برتابة وهدوء، تُـضبب الأبعاد وتُعلّق الإحساس بالمكان والزمان؛ الصنوبر والقُـنن والمنحدرات والهضاب. الشمس والقمر والنجوم وتمايز الضوء والظل، كلها تظهر وأنت تخترق فقاعة هذا السديم على هيئةِ حوافٍ مرسومة. أحدهم عربيٌ طائي من العراق كاد أن يُجن، اقتنع بأنه يسير عالقاً في حلمٍ من الأحلام، كما يقول صاحبه، صورةٌ منحوتة في المدى الدخاني تكرر نفسها بلا نهاية…}
***
وبدا لي في ” النَّص”.. وألهَمَني :
اتبعني ..وتعال نلتقِ خارج النص . فالنصُّ مقتلةُ القلوب، وخارج النص مقتلة العقول. وإذا رأيتَ أهلَ النص يتشاتمون ويذبح بعضهم بعضاً، فاعلم أنهم الآن يقرأون النص.
وألهمني :
إذا جئتني، لا ترافق نصاً في الطريق، ولا ترافق أهلَ نصٍ في الطريق.
وألهمني :
الصبرُ عند المصيبة إيمان، وعند المأكل والمشرب قناعة، وعند حفظ السر كتمان، ومن أجل الصداقة وفاء.. والصبر ليس نصّاً، وليس له حروف يُكتب بها.
وألهمني :
النصُّ يقرأ ويكتب، وخارج النص أميٌّ.. لا يقرأ ولا يكتب. والنص له عشيرة؛ أجدادٌ عَلوا وأحفادٌ سفلوا.. وخارج النص مُنْبَتٌّ أبتر، ومقطوعٌ من شجرة..
وألهمني :
النص حدُّ العارف، وخارج النص حدُّ الواقف. وشتان بين من عرف وبين من وقف. ولا نصَّ لواقف، ولا خارجَ نصٍ لعارف.
وألهمني :
السفلة الرذلة دوماً لهم أملٌ في النص، وليس لهم أملٌ خارج النص. فإذا أصبحت خارج النص استوفيت النهايات، فلا خيرٌ يفيدك ولا شرٌّ يضيرك.
وألهمني :
تَعِسَ من فارق النص ولم يعثر عليّ، وتعس من قارف خارجَ النصِ ولم أعثر عليه.