سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل السابع من رواية (حـيـنَ نُـفِـخَ فـي الـصُّور)
كان “كَعْلْصْها” يسكر طول الليل وطول النهار. ينطرح نائماً كحيوان ذبيح سائر يومه. يشخر وينخر، ويسب السماوات والأرض، والبحار والأنهار. ثم يستفيق قبل هبوط المغرب. فإذا نزع سكينه ذات النصل الحاد، وخرج بها إلى الشوارع ملوحاً وصارخاً بأعلى صوته، عرف الناس جميعاً أن “كعلصها” قد أفاق من رقاده وسكرته، فيبدأ بصيحته المألوفة المعتادة:
ــ نصف شوارع هذه المدينة لي.. وهي ملكي..
فيصغي إليه المارة باهتمام وموافقة على القول. فيضيف:
ــ ونصفها الآخر لسائر عباد الله الآخرين.
حتى الحكومة والمسؤولين المحليين استنوا قانوناً صامتاً عن العرف المألوف، غير القابل للمداولة أو المراجعة، أن “كعلصها” هو المواطن الوحيد الذي يحق له أن يكفر وأن يشتم المقدسات وسائر الناس، بصراخٍ عالٍ في سائر الأرجاء، وفي أي مكان وزمان. وأن يقلقَ الراحة العامة للمواطنين، دون أن يقضَّ ذلك مضجع القانون ورجال الإدارة المسؤولين، عن تطبيق النظام.
ولقد حذرتني أمي أكثر من مرة:
ــ إياك يا محمود أن تعبر في أيٍّ من الشوارع حين تبصر “كعلصها” قد سدّ حركة المرور فيها بسكينه التي تشبه سكين القصاب.
ثم تضيف:
ــ “كعلصها” يقوى على قطع أي امرئ من خليقة الله نصفين، كما يقطع المرء تفاحة أو ثمرة فاكهة.
أما جارتنا العجوز، التي كنت أناديها تيتة، فلقد زودتني عنه بمعلومة مفيدة:
ــ هل تصدق يا محمود بأن “كعلصها” قد دخل السجن خلال عمره كله ستاً وعشرين مرة.. ثلاث مرات منهن بتهمة الشروع في القتل؟
ثم تضيف:
ــ كان له صاحب لا يكاد يفارقه، اسمه “سفينة”.. مات في حبسه قبل ولادتك بستة أعوام.. في آخر مرة قضى فيها محكوميته، وبعد انتهائها جاؤوا إليه ليطلقوا سراحه خارج سور السجن، فرفض.. أصر أن يقضي بقية أيامه في الحبس حتى يموت.. ولقد أجابوه على طلبه.
ثم تزيدني علماً بشؤون “كعلصها”، مضيفة أخطر ما في الأمر:
ــ إلى الدرجة التي قررت فيها الحكومة، وبأمر من أعلى مسؤول فيها، أن تغض الطرف عنه وتعفيه من كل مسؤولية.. فلا أحد يقترب منه أو ينهاه أو يحاول زجره أو يقبض عليه..
وسمعت والدي يعلق قائلاً:
ــ “كعلصها” كان فتى صالحاً في ريعان شبابه. ولا أحد يفهم اليوم ما الذي سمم عقله إلى هذا الحد الذي لا يصدق.
وذات مرة سب أحد المارين من السابلة، وأغلظ له الشتيمة في القول، متحرشاً وطامعاً في شجاره. فما كان من الرجل إلا أن فاجأ الجميع، حين انحنى انحناءة خفيفة، وأجاب بأدب جم:
ــ حين تشتمني بمثل هذه الشتيمة البالغة القبح يا سيد “كعلصها”.. فإنك تمنحني ميزات فذة. وقيمة شخصية لا أستحقها في الحقيقة.
وحده الشيخ عبد الواحد، شيخ الحارة والمسجد، كان إذا صدفه، رتع نحو الرصيف الأبعد محاذراً، وهو يجمجم لنفسه خشية أن يسمعه “كعلصها”:
ــ اللعنة على الظالمين.
وفاجأ الناس جميعاً غيابه المباغت عن المدينة دون سابق إشارة. دهمهم غيابه كما يدهم
القطار قطيع إبل شاردة. فكثرت التأويلات وانتشرت الشائعات. وغدت غيبته مبعث حيرة
وشك. فقال معشرٌ من أهل الخير:
ــ لو علمنا أنه مات واستراح، لسألنا الله له الرحمة.
وقال معشر من أهل السوء:
ــ ما زلنا في ريب إن كان الله سيرحمه.
وذات يوم جاء من أقصى المدينة رجل يسعى، فنادى في الناس ليجتمعوا إليه، وحالما أتى على ذكر خبر عن “كعلصها” اجتمع إليه خلق كثير. فاستفزز دهشتهم بهذا النبأ العجيب:
ــ هل تصدقون أن “كعلصها” رئي في موسم الحج يطوف حول الكعبة؟
ــ رأيته أنت بأم عينك؟
قال الرجل:
ــ لا.. أخبرني بالخبر من رآه رأي العين، ومن لا أتهمه بروايته.
فقال البرنس:
ــ ما سقط مجدٌ إلا بسبب المهازل وأهلها.
***
{…. وبالعودة إلى فتح سجستان، لابد أن نختم بالقول:
أخذ رجال خلف بن أحمد يتراجعون من سورٍ إلى سور، وحينها ارتعد خلف وأرسل رسالةً إلى السلطان محمود، يطلب فيها الأمان فوافق السلطان محمود وأكرَمه واحترمه وأتاح له السَّكن في المكان الذي يريد، وحينها ذهب وسكن الجوزجان، وأقام فيها أربع سنين.
يُغَلِّبُ كثيرون مرجع كل تلك الانتصارات، إلى فضل الله أولاً، ثم فضل سلاح
الفرسان الذى أنشأه السلطان محمود بن سبكتكين، الذى وصل عدده في بعض
الروايات عند المؤرخين، إلى مائة ألف فارس، مسلحين بأحدث وأفضل الأسلحة. كذلك ترجع فضيلة ذلك التفوق إلى سلاح الفيلة، الذى كان السلاح الرئيسي في معارك المسلمين في الهند. حيث كان السلطان محمود بن سبكتكين شديد الحرص على الاستكثار من الفيلة وتقوية الجيش بها. حتى قيل بأنه ربما صالح بعض ملوك الهند، مرات، مقابل عدد من الفيلة يعطونها له.
وها هي الأرض مرة أخرى وقد تحولت إلى مزيجٍ من سمرة منقطة بنقط كبيرة الحجم من البياض. وتحت أقدام حوافر خيل الجنود وعابري السبيل راحت تُخشخش أوراق الشجر المتساقط. وتحت الأقدام والحوافر، ثمة تربةٌ مبللةٌ بالثلج الذي كان يذوب.
ولن يطول بقتيبة الوقت طويلاً حتى نراه قد أصبح مقاتلاً في جيش السلاجقة. في خلاءٍ ما، وسط خراسان، خلال شتاءٍ من الشتاءات.. في هذه المرحلة، وقبل التحاقه كفارس محارب مع السلاجقة، روى قتيبة بنفسه تلك الرواية التي حدثت بعد وصوله خراسان بأمد قريب. حيث قال:
ــ خرجتُ من أبيورد برفقة رجل كان صاحباً لي قبل صحبة الطريق تلك. (لم يذكر من
كان ذلك الرجل، ولكن يُظن بأنه ذلك الصوفي الذي حلت فيه روح الشاعر المكدّ: أبي فرعون الساسي).. هذا ما يُرَجَّح..
ادلهمَّ ليلُ الشتاء الثلجي. كان ثمة ظلام كثيف لا يُتصور ظلامُ ليلٍ أشدُّ حلكة منه.
ذلك البياض الساطع الذي تشعر في كل مرة تراه، أنك لم تر مثله من قبل، يغطي سطح كل شيء بسطوعه، ويطمر نصف سيقان الأشجار فتبدو وكأنها شواهد قبور،
ذلك البياض المعدوم الهيئة والشكل، يُميت الحواس، بيوتٌ وطرقٌ وملاعبُ، وأماكن يتفاجأ فيها المرء لأنه يراها لأول مرة، فيشعر الرجل فيها بالفقد والخشية، ويفكر دوماً بالعودة من حيث أتى.. لون البياض بطبيعته لون حيادي، وأصوات انهيارات ثلجية تسمع من بعيد هنالك، في مكان ما، من جبال بعيدة تكاد تكون غير مرئية وراء الضباب.
فرأى قتيبة ومصاحبه في ذلك الطريق، وبعد قليل من التفاهم، أن يأويا إلى خربة كان يتردد عليها بعض المتصوفة الشكفتية. (وهم بعض متصوفة خراسان الذين يأوون إلى كهوف في الجبال وينقطعون فيها للعبادة والتأمل). فإذا بهما يفاجآن في تلك الخربة بجثة رجل صوفي من الشكفتية، وقد تفسخ لحم الجثة وأنتنت، وفاحت منها روائح لا تحتمل.. بينا خالطت عظام الرجل الميت ولحمه رائحة الطين، ونسجت العنكبوت بيوتاً
قديمة الصنع فيما يبدو، قبل أن تغادر المكان وتهجره..
أغراض الرجل الميت وأمتعته التي كان يستعين بها، كانت ما تزال على حالها وفي مكانها، لم تعبث بها يد أو ريح أو حشرة أو حيوان. وبجوار الجثة كان ثمة بعض رسائل تركها الميت خلفه. وبعضٌ من مخطوطات لعله كان يخطها بيده قبل أن يموت.
نظر أبو فرعون الساسي إلى إحدى تلك الرسائل، وقال:
ــ إنه كان يريد إرسالها لزوجته قبل أن يفارق الحياة.
فما كان من رفيق قتيبة وصاحبه، أبي فرعون، إلا أن حمل كل تلك الكتب والرسائل وأشعل فيها النيران، مستعيناً بها على إضرام موقد يستدفئون به من قرِّ الشتاء. زاد الرجل من لهيب النار وضرامها، وجلسا حولها بعد أن تخلصوا من جثة الصوفي الشكفتي في حفرة من حفر العراء خارج الخرابة.
كانا يراقبان الرسائل والمخطوطات والكتب وهي تحترق وتتلاشى رويداً. حين قال أبو فرعون، كمن يعزي نفسه لأنه لم يحتمل أمانة أن ينظر، أو يكلف نفسه مجرد النظر إلى ما احتوته تلك الرسائل، وما حفلت به من وصايا قبل موت الرجل:
ــ لابد أن المرأة التي كان يريد أن تصلها الرسالة قد شبعت موتاً مثل صاحبها أو قبله.
وحين طلع النهار، وتنفس الصباح، كان الثلج قد توقف.
خرجا من تلك الخرابة، واستقلا الطريق الواصل بين أبيورد والمدن الخراسانية. وجعلا يسيران خبباً في تيه السهب الكبير المنقط ببقع كبيرة من تربة بيضاء….}
***
بدا لي في “القبور”..
وألهَمَنِي:
لا تأخذ الموعظة من أهل القبور، وليأخذوا هم الموعظة منك. فأهل القبور لا يسكنون القبور، وانتم لا تسكنون الدور. وأنتم وأهل القبور تتشاركون في المنشط
والمَكره، وفي المعقولية والمسؤولية، وفي النصِّ والرأي.
وأنتم وأهل القبور تتشاركون الطعام والشراب، والمال والبنين. فبعض هذه القبور لايزال يحكم، وبعضها شريك في القضاء، وبعضها شريك في المال. فأحضر ْميزانَكَ .. وزِنْ ما تعلمُ وما لا تعلمُ. وزِنْ ما تريدُ وما لا تريدُ. وزِنْ ما تتمنى وما لا تتمنى. فإذا فَرَغْتَ من موازينِكَ، فأخرِجْ الموزوناتِ من قلبِكَ واطَّرِحْها جانباً. وأخرِجِ الميزانَ من قلبِكَ واطَّرِحْهُ جانباً. وتوجهْ إليَّ في فضاءٍ لا ميزانَ فيه ولا موزونات.
وألهمني :
العارفُ يعرفُني من أسطرِ حُروفه، والواقفُ بي لا يقرأُ ..لأنه هو السطور والحروف.
وألهمني :
إذا عرفْـتَني بعلمٍ أو ذكاءٍ، ما عرفتني. وإذا رأيتني في إشاراتِ عارفٍ أو سُطور كاتبٍ، ما رأيتني.
وألهمني :
أنتَ لست أنتَ. بل أنتَ وحقيقَتُكَ، والآخرون ليسوا الآخرين، بل همْ وحـقـيـقَـتُهُم. وفي
موقفي أنتمُ الأربعة واحد..
وألهمني:
لا تظنّنَ القبورَ حفراً أُهيلَ عليها التراب.