مجد أبو ريا
على الرغم من مرور 53 عاماً على مقتله في 9 أكتوبر/تشرين الأول 1967 في بوليفيا بعد يومٍ واحد من اعتقاله ومحاكمته في محاكمةٍ ميدانيةٍ سريعة، إلا أنّ الكثيرين من سكان العالم اليوم يعتبرون تشي جيفارا رمزاً للثورة على الظلم والاستبداد والاستعمار والفقر، لا سيما في الدول العربية التي عانت الويلات من الاستعمار والحكم الديكتاتوري على السواء.
على الرغم من مرور 53 عاماً على مقتله في 9 أكتوبر/تشرين الأول 1967 في بوليفيا بعد يومٍ واحد من اعتقاله ومحاكمته في محاكمةٍ ميدانيةٍ سريعة، إلا أنّ الكثيرين من سكان العالم اليوم يعتبرون تشي جيفارا رمزاً للثورة على الظلم والاستبداد والاستعمار والفقر، لا سيما في الدول العربية التي عانت الويلات من الاستعمار والحكم الديكتاتوري على السواء.
وكون تشي جيفارا قد تبنّى الحركة الثورية اليسارية وأعلن الحرب على الإمبريالية، فقد ارتبط ببعض الزعماء العرب الذين تبنَّوا نهجاً ثورياً قريباً من نهجه بعض الشيء. وقد كانت له علاقة خاصة مع بعضهم، كما أنه زار بعض البلدان العربية، بل كانت محلاً لإقامته لفترةٍ من الفترات خلال عمله الثوري.
رحلة تشي جيفارا مع الثورة
ولد إرنستو جيفارا دي لا سيرنا في 14 يونيو/حزيران 1928 بمدينة روساريو بالأرجنتين لأسرةٍ من الطبقة المتوسطة، وينحدر والده من أصولٍ أيرلندية ووالدته من أصولٍ إسبانية، وقد أصيب بالربو في طفولته ولازمه طوال حياته. لكنَّ هذا لم يمنعه من أن يكون رياضياً ودائم النشاط. كما درس الطب في جامعة بوينس آيريس الأرجنتينية، وتخرج منها عام 1953.
كان جيفارا يستغلُّ إجازاته الجامعية في السَّفر لاستكشاف أمريكا اللاتينية عبر دراجته النارية، وفي نهاية عام 1951 قام برحلة استمرت عدة أشهر زار فيها العديد من الدول اللاتينية. وهنا تغيرت نظرته للعالم بعدما شاهد معاناة سكان قارَّته مع الفقر المدقع والظلم.
بعد انتهاء رحلته تلك، قرر جيفارا أنه لا بد من تنظيم استراتيجية ثورات عنيفة لتحرير القارة، التي كان ينظر إليها ليس كمجموعة من الدول المنفصلة ولكن ككيان ثقافي واقتصادي واحد بحسب مذكراته “يوميات دراجة نارية”.
وفور إكماله دراسته الجامعية عام 1953، توجّه جيفارا إلى دولة غواتيمالا، ليشارك في مقاومة الانقلاب العسكري الذي اتهمت المخابرات الأمريكية بالوقوف وراءه، على الرئيس جاكوبو أربينز الذي حاول الحد من النفوذ الأمريكي الاقتصادي في بلاده، إضافة لفرضه قوانين إصلاحية زراعية جديدة.
وبعد نجاح الانقلاب العسكري في غواتيمالا في الإطاحة بأربينز، غادر جيفارا وتوجه إلى المكسيك، والتقى هناك بمجموعةٍ من الثوار الكوبيين المنفيين – أبرزهم الأخوان فيدل وراؤول كاسترو – اللذان كانا يستعدان لمحاولة الإطاحة بديكتاتورية فولجنسيو باتيستا في كوبا، ليقرر بعدها الالتحاق بالثورة الكوبية.
وقد بدأت تظهر آنذاك معالم شخصيته المتأثرة بالفكر الماركسي وأفكار الزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ. خصوصاً نظريته المعروفة بانبعاث الثورة من الجبال والأرياف لتنطلق بعد ذلك إلى المدن، وهو ما حاول تطبيقه فيما بعد في كوبا.
انضمّ جيفارا إلى حركة 26 يوليو 1955 بزعامة فيدل كاسترو، وفي العام التالي خاض مع مجموعةٍ من الثوار الكوبيين حرب عصابات لمدة سنتين، وخسروا نصف عددهم في معركة مع الجيش انتهت بنزول الثوار من جبال سيرا مايسترا التي كانوا يتحصَّنون بها، ودخول العاصمة الكوبية هافانا في 8 يناير/كانون الثاني عام 1959، وإسقاط حكم فولغينسيو باتيستا العسكري.
ومنذ انطلاق الثورة الكوبية، أصبح جيفارا الرجل الثاني في كوبا بعد فيدل كاسترو الذي ترأس البلاد عام 1959، كما حصل على الجنسية الكوبية وتسلَّم عدداً من المناصب الرسمية، فعمل سفيراً منتدباً إلى الهيئات الدولية، ورئيساً للبنك المركزي في كوبا، ومسؤولاً عن التخطيط ووزيراً للصناعة، ليعمل من مواقعه تلك على تأميم جميع مصالح الدولة الاقتصادية.
هذه المناصب أتاحت لجيفارا الاتصال وإقامة العلاقات بالعديد من القادة السياسيين في العالم، لا سيما في الدول القريبة من توجهاته. فقد ارتبط بعلاقة مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر والرئيس الجزائري أحمد بن بلة ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو ورئيس يوغوسلافيا جوزيف تيتو وغيرهم.
زيارة إلى مصر بعد نجاح الثورة الكوبية
كان جيفارا معجباً بتجربة الإصلاح الزراعي في مصر، التي بدأت بعد ثورة 23 يوليو/تموز 1952، ولذلك قرَّر زيارة مصر في يونيو عام 1959 لمدة 15 يوماً للاستفادة من تجربة جمال عبد الناصر الاشتراكية، الذي استقبله بحفاوةٍ شديدة في قصر القُبَّة في القاهرة، وقد سلمه درعاً تذكارية تكريماً لجهوده في الثورة الكوبية.
ولكن على الرغم من هذه الحفاوة، إلا أن الرئيس المصري لم يكن مهتمّاً كثيراً بالثورة الكوبية، وذلك لشكِّه في أن الاستخبارات الأمريكية هي التي دعمتها، تماماً مثلما دعمت الثورة في غواتيمالا، بحسب كتاب “عبد الناصر والعالم” لمحمد حسنين هيكل الذي كان حينها يشغل منصب رئيس مجلس ورئيس تحرير جريدة الأهرام.
وبحسب هيكل، بدا الاختلاف واضحاً بين عبدالناصر وجيفارا حينما تطرق الرئيس المصري للحديث عن الإصلاح الزراعي وقال إن ما يفعله هو تصفية امتيازات طبقة معينة وتفتيت سلطة الإقطاعيين، أما جيفارا فكان يُقيس عمق التحوّل الاجتماعي بعدد الأشخاص الذين يمسهم تأثير الإصلاح، وقد رحل جيفارا عن مصر ولم تتمخض زيارته عن شيءٍ يُذكر.
وبعد انتهاء رحلته في مصر، توجه جيفارا عن طريق البر إلى قطاع غزة الذي كان يخضع حينها للإدارة العسكرية المصرية، وقد تجول في زيارته القصيرة إلى غزة، في عدد من مخيمات اللاجئين ومنها البريج، ولقي خلال تجواله ترحيباً كبيراً من المسؤولين الفلسطينيين ورؤساء البلديات وسكان القطاع، كما قام بزيارة القطاع عقب زيارته الثانية إلى مصر.
وبعد انتهائه سافر إلى سوريا وتجول في باحات المسجد الأموي في دمشق خلال زيارته إلى سوريا في يونيو 1959 وأبدى إعجابه الشديد بتجربة الوحدة بين مصر وسوريا كطريقٍ للوحدة العربية، ومن ثم قام بزيارة السودان والمغرب العربي[ma1] .
تولد لجيفارا عقب زيارته إلى الوطن العربي وعددٍ من الدول الآسيوية والإفريقية، الطموح إلى العمل على نشر النموذج الثوري في عددٍ من دول العالم، والمساهمة في حركاتها التحررية، وأبدى مساندته لحركات التحرر في تشيلي وفيتنام والجزائر.
لقاء آخر مع جمال عبدالناصر
توجه جيفارا إلى القاهرة مرة أخرى عام 1965. كان عبدالناصر قد ترك فكرة دعم أمريكا للثورة الكوبية، وكان هناك تقارب واضح بينهما، وهنا اقترح جيفارا على عبدالناصر التدخُّل سوياً في الكونغو التي عانت من التدخُّل الأجنبي والحروب الأهلية بين عامي 1960-1965، لتحرير إفريقيا من الاستغلال والهيمنة الاستعمارية.
لم يتشجع عبدالناصر لفكرة إشعال فتيل الثورة في الكونغو، وطلب من صديقه جيفارا نسيان فكرة الذهاب إلى هناك أصلاً ورفض إرسال جيش مصري معه لعدة عوامل. أولاً لأن جيفارا رجل أبيض ولن ينجح في استقطاب الناس هناك، كما أن الغرب الاستعماري سيتَّهمه بأنه قائد مرتزقة. وثانياً لأن الثورة ستنتهي هناك بالفشل بحسب تقدير عبدالناصر، ولذلك نصحه بعدم خوض هذه التجربة لأنها خطوة غير حكيمة.
لكنّ جيفارا قرر ترك العمل السياسي في كوبا، وأصرّ على المغادرة إلى إفريقيا في عام 1965 ليقدِّم خبرته، باعتباره خبيراً في حرب العصابات ضد الجيوش النظامية إلى الصراع الجاري في الكونغو. فقد كان يعتقد أنّ إفريقيا هي الحلقة الضعيفة للإمبريالية، وبالتالي قد تنطوي على إمكانات هائلة للثورة، بحسب الرئيس الجزائري أحمد بن بلة الذي كانت تجمعه علاقة قوية أيضاً مع جيفارا.
علاقة فريدة جمعت تشي جيفارا وأحمد بن بلة
ارتبط تشي جيفارا بعلاقةٍ فريدة من نوعها مع الرئيس الجزائري أحمد بن بلة. وهو أول رئيس للجزائر بعد استقلالها عام 1962 عن الاستعمار الفرنسي. والذي أطاح به لاحقاً هواري بو مدين في انقلاب عام 1965، وهو أيضاً قائد ثورتها المسلحة ضد الاستعمار الفرنسى منذ 1954.
وقد تحدث بن بلة عن هذه العلاقة في سلسلة مقالات كتبها تم نشرها في فتراتٍ مختلفة.
يقول أحمد بن بلة إنه تعرف على جيفارا خلال زيارته إلى الأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/أيلول عام 1962، وكون الجزائر تنتهج سياسة التحرر من الاستعمار والاستبداد توجه بن بلة عقب زيارته إلى كوبا لدعم كوبا وثورتها خصوصاً في محنتها نتيجة أزمة الصواريخ الكوبية.
وأزمة الصواريخ الكوبية هي مواجهة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي المتحالف مع كوبا في أكتوبر 1962 ضمن أحداث الحرب الباردة. وتقارن أزمة الصواريخ الكوبية، وهي إحدى أشدّ المواجهات خلال الحرب الباردة، وتعتبر هذه الأزمة أقرب أزمة كادت أن تؤدي لحرب نووية.
وكان أول لقاء بينهما في 16 أكتوبر 1962 عند وصول بن بلة إلى العاصمة الكوبية هافانا وسط استقبال الأخوين كاسترو وجيفارا له، ليبدأ عهد التحالف التاريخي بين كوبا والجزائر الاقتصادي والتعاون العسكري، فضلاً عن الصداقة التي جمعت بين بن بلة وجيفارا.
بعد هذه الزيارة بعام واحد، ساندت كوبا الجزائر في حرب الرمال، وهو صراع مسلح اندلع بين المغرب التي ساندتها أمريكا وفرنسا وبين الجزائر في أكتوبر من عام 1963 بسبب مشاكل حدودية. بعد عام تقريباً من استقلال الجزائر وعدة شهور من المناوشات على الحدود بين البلدين وقد استمرت لأيام معدودة، حتى توقفت في 5 نوفمبر بوساطة الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية.
يقول بن بلة إن الرئيس المصري جمال عبدالناصر، هيأ لنا بسرعة التغطية الجوية التي شكلت نقطة ضعفنا، أما فيدل وراؤول كاسترو وتشي غيفارا، فقد بعثوا لنا كَتيبة تتألف من اثنين وعشرين مصفَّحة إلى جانب مئات الجنود، توجهوا نحو “بيدو” جنوب سيدي بلعباس، مظهرين استعدادهم لخوض المعركة، إذا استمرت حرب الرمال.
وخلال العامين التاليين تبادل بن بلة وجيفارا الزيارات المكثَّفة، وكان النقاش الدائم بينهما حول تصدير الثورة الجزائرية والكوبية إلى إفريقيا والتنسيق مع صديقهما جمال عبدالناصر وأصدقائهم من زعماء الدول ذات النزعة التحررية، وقد ساعدت الجزائر الثورة المسلَّحة في الكونغو، وتبعتها مصر، وغانا، وكينيا، وكذلك غينيا وأوغندا ومالي.
وأصبحت الجزائر ملجأ الحركات الثورية لأمريكا اللاتينية، تقوم بتكوين أطرها العسكرية وتدريب جنودها على أراضيها. ويشرف على ذلك تشي جيفارا بنفسه، ويذكر الرئيس أحمد بن بلة أن التدريبات كانت تتم في المرتفعات وقيادتها كانت مستقرة في بيت كبير يدعى “سوزيني”، كان مركزاً لتعذيب المجاهدين الجزائريين خلال الاستعمار الفرنسي.
ألقى جيفارا ما سيصبح خطابه الأخير في الجزائر يوم 24 فبراير 1965 الذي كان آخر ظهور علني له على المسرح الدولي في ندوةٍ اقتصادية عن التضامن الأفرو – آسيوي، وقد ركَّز في خطابه على الواجب الأخلاقي للبلدان الاشتراكية واتهمهم بالتواطؤ الضمني مع الدول الغربية المستغلة، وأعلن أن “إفريقيا تمثل ساحة من أهم ساحات المعارك ضد جميع قوى الاستغلال الموجودة في العالم”.
والمفارقة أن جيفارا ترك الجزائر التي كان يتخذها ملجأ له في يوم الانقلاب العسكري على الرئيس أحمد بن بلة الموافق 19 يونيو 1965، لكنّ موقف الجزائر لم يتغيَّر إزاء كوبا وتشي جيفارا.
يقول بن بلة في أحد مقالاته: “في الحقيقة، أنا وزوجتي، استمر تعلّقنا بـ “تشي” بوضع صورة كبيرة له زيّنت جدران سجننا، ونظرته ظلت شاهداً على حياتنا اليومية، أفراحنا وأحزاننا”.
النهاية المحتومة لتشي جيفارا
اختفى جيفارا عن المشهد السياسي والإعلامي في إبريل/نيسان 1965 كما أنه قد استقال من منصبه الوزاري في الحكومة الكوبية، وأعلن فيدل كاسترو أن جيفارا تخلَّى أيضاً عن جنسيته الكوبية في 3 أكتوبر 1965، وقد ظلت تحركاته ومكان وجوده سرياً طوال العامين المقبلين.
وقد عُرف لاحقاً أنَّه سافر إلى الكونغو مع مقاتلين كوبيِّين آخرين في محاولة لتنظيم حركاتٍ ثورية في مختلف القارة الإفريقية ولكنَّه فشل في ذلك، فهرب أولاً إلى تنزانيا ثم تمكَّن من الوصول إلى أوروبا واستقر لفترة في منزل آمن في قرية بالقرب من براغ عاصمة جمهورية التشيك.عاد جيفارا إلى بوليفيا حيث وجد نفسه مع بداية عام 1967 برفقة عددٍ من المقاتلين في مواجهة الجيش البوليفي، الذي بدأ رحلة مطاردة له، انتهت بمقتله مع أغلب مجموعته في 9 أكتوبر/تشرين الأول 1967، عند وديان بوليفيا الضيِّقة التي أحكم الجيش السيطرة عليها، وقبل اختفاء جثته لدفنها سراً قطعت يداه. تم حفظها في الفورمالديهايد حتى يمكن استخدام بصمات أصابعه لتأكيد هويته.
المصدر: عربي بوست