39 عاماً والسوريون يرددون أصداء المجزرة ويستعيدون أحداثها، ليس في ذكراها السنوية فحسب بل كلما شاهدوا أو سمعوا أو مرّ على زوايا ذاكرتهم ما يثير الخوف والحزن والغضب. نعم، لن نبالغ في القول إن مجزرة حماة تكاد أن تكون حاضرة في جٌلّ أيام السوريين.
ولعل جزءاً يسيراً من تفاصيل أحداث المجزرة المرعبة، التي امتدت على مدى 27 يوماً (منذ الثاني من شباط عام 1982 حتى مطلع آذار) ما يزال خافياً حتى اليوم؛ فالمدينة كانت أغلقت بالكامل بوجه المدنيين، وطُوقت بالدبابات والمدرعات ومدفعيات الميدان، وحوصرت بآلافٍ من جنود الأسد الأب الذين لا يختلفون عن جنود الابن في الوحشية والإجرام.
إغلاق المدينة وعزلها بشرياً وإعلامياً عن محيطها، لم يكن السبب الوحيد في اختفاء ذلك الجزء من الأحداث، بل ساهمت أسباب عديدة أخرى في طمسها، ولعل أبرزها يتمثّل في تصفية من عاصرها داخل المدينة وكان شاهد العيان الوحيد عليها، وربما كان نفسه ضحية تلك التفاصيل الموغلة في وحشيتها، فاختفى معها تحت أنقاض حماة.
مجلة الـ “إيكونومست” نشرت مقالاً في عددها الصادر بشهر أيار 1982، حمل عنوان “أهوال حماة”، قالت فيه “إن القصة الحقيقية لما جرى في شباط بمدينة حماة لم تعرف بعد وربما لن تعرف أبداً. مرّ شهران قبل أن تسمح (الحكومة السورية) للصحفيين بزيارة خرائب المدينة التي استمرت تحت قصف الدبابات والمدفعية والطيران ثلاثة أسابيع كاملة. لتمحى أحياء كاملة من المدينة القديمة”.
عشية المجزرة
منذ تسلّم حزب البعث السلطة في سوريا، بعد انقلاب آذار 1963، كانت غالبية المدن السورية تشهد بين الفينة والأخرى تظاهرات واحتجاجات وإضرابات، لأسباب مختلفة، إلا أن غالبيتها تمحورت حول إعلان حالة الطوارئ على البلاد بُعيد الانقلاب.
ولم تكن حماة بمعزل عن حراك المدن السورية، بل إن حراكها كان الأبرز من بين المدن الأخرى. ففي نيسان 1964 نفذت المدينة إضراباً عاماً مصحوباً بمظاهرات حاشدة، للمطالبة برفع حالة الطوارئ. فكان الصدام الأول مع الجيش الذي قمع الاحتجاجات بوحشية وقصف المدينة بالمدافع.
الصدام الثاني جرى عام 1973 حين احتج الأهالي على مسودة دستور أزيل منها المادة التي تشترط أن يكون رئيس البلاد مسلماً، فخرجت مظاهرات حاشدة، لم تجبر النظام على إعادة المادة إلى الدستور فحسب بل وأجبرت حافظ الأسد على إشهار إسلامه أمام مفتي سوريا آنذاك.
ولا شك بأن الواقعتين السابقتين، وعلى الأخص الثانية منهما، كان لها الأثر البالغ في نفسية حافظ الأسد، ولعلها ساهمت في تأجيج شعور طاغٍ بالانتقام الذي تجسّد لاحقاً في شباط 1982.
وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي، شكّل صعود جماعة “الإخوان المسلمين” وسطوع نجمها على الساحة آنذاك دوراً رئيساً في تأجيج الصدام. فنشاط الجماعة -المعارِضة والرافضة لنظام الأسد- وقوة تنظيمها، وتشكيل بعض كوادرها لـ “الطليعة المقاتلة” المسلحة، وتنفيذها عمليات اغتيال (أبرزها عملية استهداف الطلاب الضباط من أبناء الطائفة العلوية في مدرسة المدفعية بحلب 1979)؛ كل ذلك مهّد لأحداث حماة اللاحقة.
فبعد أن لاحق نظام الأسد عناصر الطليعة المقاتلة في معظم المدن السورية، وقتل قسماً منهم واعتقل آخر، لجأ بعض مقاتليهم (بين 200- 300 مقاتل بحسب تقديرات) إلى مدينة حماة وتحصنوا فيها. وهنا جاءت الفرصة العظمى لتنفيذ خطة الانتقام.
ليل المجزرة
اختار حافظ الأسد شقيقه رفعت ليكون السلاح الأنسب في تنفيذ معركته الانتقامية. وكان الأخير آمراً لأكثر من 15 ألف عسكري، يتبعون لأهم تشكيلات الجيش آنذاك، والمتمثلة في: سرايا الدفاع، وسرايا الصراع، ولواء دبابات، والقوات الخاصة، بالإضافة إلى مختلف عناصر الأجهزة الأمنية والمخابرات والشعب الحزبية.
تم تطويق المدينة وإغلاق مخارجها وعزلها بالكامل عن المحيط. وحين هبط الظلام على المدينة، في الثاني من شباط، كانت تشكيلات سرايا الدفاع أولى الفرق المنتشرة داخلها بالتزامن مع قطع الكهرباء وخطوط الهاتف، وابتداءً من الساعة التاسعة وقعت أحياء المدينة تحت رحمة الرصاص وقذائف المدفعية والراجمات. وكانت الليلة السوداء الأولى للمذبحة.
فجر المجزرة
مع فجر اليوم التالي (الـ3 من شباط) كان حيّ (الحاضر) العريق في حماة الهدف الأول للراجمات التي نصبها النظام فوق أبنية ساحة العاصي مقابل الحي بذريعة تحصن مقاتلي الطليعة بداخله. ومع انتهاء نهار ذلك اليوم كان الحاضر -بأكمله- عبارة عن ردمٍ من الحجارة تعلوه سحابة سوداء.
من جهة أخرى، انتشرت باقي تشكيلات الجيش لتحتل شوارع وحارات المدينة وتشّلها بالكامل، ثم بدأت المرحلة التالية المتمثلة بـ “تعفيش” المحال التجارية بمختلف محتوياتها. واستمرت مرحلة النهب والتعفيش إلى اليوم التالي أيضاً (4 شباط) حيث لم تسلم حتى دوائر الدولة والمصارف الحكومية من سرقة الأموال.
وشهد ذلك اليوم ما عُرف بمجزرة (حي حماة الجديدة)، حيث تم جمع سكان الحي داخل الملعب البلدي وأطلق عليهم النار من الرشاشات، ويقدّر الأهالي عدد ضحايا المجزرة بنحو 1500 شخص.
مسلسل أيام المجزرة
في صباح الـ5 من شباط (وكان يوم جمعة)، راحت أعداد الجنود تتضاعف داخل المدينة، ولاحظ الأهالي ارتداء كثيرين منهم دروعاً واقية وأقنعة بيضاء اللون، بالإضافة إلى ظهور عربات مصفحة صغيرة تسير مسرعة بين الأحياء.
وتجدد قصف المدافع والراجمات مستهدفة مختلف أحياء المدينة، إلا أن التركيز كان على منطقة (السوق) حيث تهدمت معظم البيوت، فلجأ من بقي حياً من أصحابها إلى الأقبية.
وعند منتصف النهار، أعلن البدء بالذبح الجماعي، وكانت البداية مع العائلات المحتمية داخل الأقبية.. وبالكامل. ولتستمر بعدها المجازر دون توقف، وبصورة متزامنة داخل الأحياء، لدرجة أن الناس لم تعد تستطيع التفريق بين مجزرة حيّ وآخر.
ومن بين عشرات المجازر التي تعرضت لها المدينة خلال أيام الحملة، سنمرّ على الأكثر وحشية والأعمق أثراً:
مجزرة حي البياض: قتلت قوات النظام نحو 50 شخصاً لعدم تمكنها من حشرهم داخل ناقلات الاعتقال الممتلئة، ورمت بجثثهم داخل حوض لمخلفات معمل بلاط.
مجزرة حي الدباغة: قتل فيها 25 شخصاً (6 عائلات كاملة) داخل منشرة أخشاب ثم تم إحراق المنشرة وهم بداخلها.
مجزرة حي الباشورة: وقتلت فيها قوات النظام عائلات بأكملها أيضاً: 39 سيدة وطفل بينهم 3 رجال من عائلة المشنوق، 11 شخصا من عائلة الدباغ، عائلة الموسى (21 شخصاً)، عائلة الكيلاني (4 أشخاص)، وعائلة طنيش والتركماني وصبحي العظم، بالإضافة إلى نحو 40 شخصاً من عائلات متفرقة قتلوا في مسجد الخانكان والثانوية الشرعية.
مجزرة حي الشمالية، ولم تعرف الأعداد بشكل دقيق حتى اللحظة، إلا أن الأهالي يقدرونهم بأكثر من 200 شخص تم إعدامهم داخل الأقبية، ومن بينهم عائلات كاملة: آل الزكار وآل كامل وآل عصفور.
مجزرة مقبرة سريحين: وهي من أبشع المجازر الجماعية بحماة، حيث ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من الرجال والنساء والأطفال لم يتم حصر أعدادهم أو معرفة أسمائهم جميعاً. فبعد أن أحضرت قوات النظام مئات الأشخاص، على دفعات، من مختلف أحياء المدينة، أطلقت عليهم النار وألقت بجثثهم في خندق كبير.
مجزرة المكفوفين (أو ما يطلق عليها مجزرة العميان): اقتحم عناصر سرايا الدفاع مدرسة للمكفوفين في منطقة المحطة. ويشرف على التدريس فيها شيوخ مكفوفون كبار في السن. أقدم العناصر على حرقهم بعد أن أجبروهم على الرقص ثم أطلقوا عليهم النار مع قسم من طلابهم.
مجزرة عائلة المفتي: أحرق العناصر مفتي حماة، الشيخ بشير المراد، حياً، بعد أن سحبوه خارج المنزل على الأرض، وقتل معه 9 من أفراد العائلة.
مجزرة الأطفال: داخل (الجامع الجديد) عند (سوق الطويل)، وقعت المجزرة بعد مضي نحو أسبوعين على الحملة، وأثناء ذلك كان الناس قد بدؤوا بالخروج بصورة محدودة في بعض المناطق.
وقفت سيارات بيع الخبز عند طرف الشارع، فطلب العناصر من الأهالي التوجه لجلب الخبز. وكالعادة أرسل الأهالي أطفالهم (أكثر من 20 طفلاً) لإحضار الخبز، ولدى عودتهم أوقفهم العناصر وطلبوا منهم الدخول إلى الجامع، ثم أطلقوا عليهم النار.
مجزرة الفتيات: كان العناصر يدهمون الملاجئ والأقبية بصورة متكررة، ويسحبون فتيات صغيرات، ثم يخرجون بهم لتنقطع أخبارهم بعد ذلك. وبعد انتهاء الحملة عثر الأهالي في (حمّام الأسعدية) على عشرات الجثث لفتيات معتدى عليهن.
هذا بالإضافة إلى مجازر عديدة أخرى، كمجزرة المشفى الوطني والجثث المقطعة بالسواطير داخله، ومجزرة معمل البورسلان الذي احتجزوا فيه آلاف المدنيين وتم قتل العديد منهم.
شاهد غربي على المجزرة
أحد مراسلي صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، “سورج شالاندون”، وكان يعمل في دمشق تحت اسم مستعار هو (شارل بوبت). تمكن شارل من الدخول إلى حماة عن طريق الحيلة، وذلك بعد سفره من دمشق باتجاه حلب، ثم تسلل من استراحة قريبة من حماة ليتمكن لاحقاً من التسلل إلى قلب المدينة مدعياً أنه خبير آثار.
وبعد أن قضى في المدينة وقتاً لا بأس به، سلم نفسه للسلطات السورية كتمويه. وبعد عودته إلى فرنسا نشر تحقيقاً مطولاً (30 صفحة) يعتبر أخطر ما كتب في الصحافة العالمية عن المذبحة كونه صادر من شخص محايد رأى بعينيه ما كان يحصل.
وبسبب طول التحقيق الذي نشرته الصحيفة في مطلع آذار 1982، نكتفي بعرض بعض ما ورد فيه:
“الساعة السابعة صباحاً.. تبدو حماة مدينة غريبة، حركة عمران! كل شيء في طور الإعمار، أو كان كذلك، وفجأة توقف كل شيء. وبمحاذاة البيوت التقليدية القديمة، كانت الأبنية الحديثة تبدو كأنها حيوانات ضخمة جريحة واقفة على ظهرها. الطوابق الأرضية ظاهرة، والأعمدة التي تستخدم عادة لحمل الطوابق الأخرى كانت عارية.
أمشي الآن وسط بيوت متهدمة، وأشجار مكسرة، وأعمدة ملوية أو منزوعة من مكانها. هناك قليل من السكان. ومثلهم فإنني أتنقل بحذر أثناء المسير. إنه هنا حدث القتال وما يزال مستمراً من صباح هذا اليوم من شهر شباط. إنها ليست الحرب، ولكن بالأحرى، نهاية معركة كانت على ما يبدو رهيبة.
ننتقل من بيت إلى بيت. ومن فوقنا تمر طائرة هيلوكوبتر. وأمامنا عائلات بأكملها تبكي، جثث تجر من أرجلها أو محمولة على الأكتاف، أجساد تتفسخ وتنبعث منها رائحة قاتلة، وأطفال تسيل منهم الدماء وهم يركضون لاجتياز الشارع.
نهيم على وجوهنا أنا ومرافقي – أحد أبناء المدينة الذي تطوع بهذا العمل- وأخيراً تستجيب امرأة لتوسلات مرافقي وتفتح لنا الباب. إنها تخبئ زوجها. ها هو ذا أمامنا مسجَّى على الأرض، دونما رأس، ميتاً منذ الـ 5 من شباط!
وهكذا فإن كثيراً من الناس يخبئون جرحاهم، خشية أن تجهز عليهم القوات الحكومية. أما الأموات فإن أهاليهم يدفنوهم بسرعة. إذا أمكن، فيما أصبح يطلق عليه اليوم مقبرة الشهداء في الزاوية (الكيلانية). (التي تم نسفها كلياً فيما بعد).
بضع طلقات نارية صوب الجنوب تتبعها رشقات قوية. وخلال عشر دقائق كانت القذائف تتساقط كالمطر أينما كان، وحيثما تسقط كنت تسمع صرخات الرعب ونداءات التوسل إلى الله على بضعة أمتار منا، شاهدنا رجلاً يتمزق تماماً ويسقط فوق جدار، كما لو أنه هيكل عظمي. ولم أصدق عيني، ولكن عندما ظهرت الطائرات من جديد فوقنا، دفعني مرافقي لتحت منزل، صارخاً “ها هم يعودون”.
في الطريق يصادفنا رجل يقدمه مرافقي لي، إنه طبيب. وبكل سرعة يناولني الطبيب هذا بضع أوراق، ويكتب لي أسماء ضحايا: “كم قتيل؟” سألته. أجاب: لا أعرف. ليس أقل من 8.000 أو 10.000 لقد رأينا ضحايا في كل مكان. أمسك (حتى يعرف العالم كله الحقيقة سجل: “مصطفى شامية، طارق عبد النور، أديب السبع، أحمد الشلبي”.
وبإشارة أفهمه أنه لا فائدة من الاستمرار لأنني لا أستطيع أن أسجلهم كلهم ولكنه يستمر وبكل عصبية ويطلب مني بطريقة الأمر أن أسجل: “إبراهيم الطرقجي، فؤاد جودت، غسان جلوسي دهيمش”.
أترك حماة بمزيج من الرعب والفزع. الفزع حين أتذكر أنه ولا مرة واحدة خلال هذه الأيام والليالي التي قضيتها هناك سمعت صوت المؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة، كما لو أن المآذن نفسها قد انكمشت على نفسها تلقائياً”.
وتستمر المجزرة
قدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان أعداد القتلى بين 30 و40 ألفاً، غالبيتهم العظمى من المدنيين. وقضى معظمهم رمياً بالرصاص بشكل جماعي، ثم تم دفن الضحايا في مقابر جماعية.
وتشير تقارير إلى اختفاء نحو 10- 15 ألف مدني منذ وقوع الأحداث، ولا يُعرف إن كانوا أحياء في السجون العسكرية أم لقوا حتفهم.
كما اضطر نحو 100 ألف نسمة إلى الهجرة عن المدينة بعد أن تم تدمير ثلث أحيائها تدميراً كاملاً. وتعرضت أحياء عدة، وخاصة في قلب المدينة الأثري إلى تدمير واسع، إلى جانب إزالة 88 مسجداً وثلاث كنائس ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي.
وتكاد لا تخلو أسرة في مدينة حماة إلا وفقدت أباً أو ابناً أو ابنة أو أخًا أو أماً أو زوجة. يضاف إلى ذلك نقمة النظام وغضبه المستدام على أبناء المدينة منذ تلك الأيام، وتذكيره المستمر لهم بأحداثها بالرغم من عدم نسيانهم لها. كما لعبت تلك الأحداث ووحشيتها دوراً رئيساً في منع أبناء حماة من الاستمرار واللحاق بركب المدن الثائرة بعد مرور أشهر معدودة على ثورة آذار 2011.
ولمعرفة حجم وهول مجزرة حماة، يكفي المرء حين يستمع لأهالي المدينة وهم يتحدثون عن سيرة ما، كولادة شخص مثلاً، أو وفاة آخر، أو زواج فتاة، ثم يذكرون تاريخ الحدث بالقول إنه وقع قبل الأحداث أو بعدها، بزمن معين.