مهنة المخاطر والكوارث: نبش حديد الأنقاض شمال سوريا خيار شعبي للبقاء

سيريا مونيتور _ إيمان سرحان

تحولت مهنة سحب الحديد من أنقاض المباني المدمرة في شمال غرب سوريا إلى خيار شعبي للبقاء، ووجه من وجوه التعامل مع الخراب، فهي ليست فقط قصة حديد يُستخرج من تحت الركام، بل حكاية مجتمع يحاول إعادة بناء نفسه بيديه العاريتين وبأنقاض مدنه المدمرة.

على أطراف بلدة كفرزيتا في ريف حماة الشمالي، يقف نور رعد الفارس فوق كتلة إسمنتية من بقايا بناء مدمر وهو يمسك مطرقة هدم ثقيلة محاولاً سحب الحديد منها، من دون اتباع معايير السلامة أو ارتداء ملابس واقية مثل الخوذة أو القفّازات.

 

بابتسامة يشوبها التوتر قال “نعمل على التوكل، والحامي هو الله”، معتمداً في عمله على أدوات يدوية: من “مهدّات” وبعض الحبال، لعدم قدرته على تأمين أدوات بديلة تعمل على الوقود أو الكهرباء من شأنها تخفيف الجهد البدني.

 

بين ركام الأبنية المدمرة جراء قصف نظام الأسد البائد خلال السنوات الماضية وزلزال السادس من شباط/ فبراير 2023، ينتشر العديد من الرجال بقمصان ممزقة وخفيفة لا تقي أجسادهم من مخاطر مهنة قاسية لا تعرف الأمان لاستخراج الحديد من الأنقاض، باعتبارها من بين المهن المتاحة أمامهم في هذه الظروف.

 

وتحولت هذه المهنة إلى خيار شعبي للبقاء، ووجه من وجوه التعامل مع الخراب، فهي ليست فقط قصة حديد يُستخرج من تحت الركام، بل حكاية مجتمع يحاول إعادة بناء نفسه بيديه العاريتين وبأنقاض مدنه المدمرة.

 

يستعرض هذا التقرير حالة الفوضى التي تحكم قطاع “نبش الحديد” والفراغ القانوني الذي يحكمه، ويطرح تساؤلات حول سلامة العاملين فيه، ومطابقة الحديد المستخرج للمواصفات والمقاييس المعمول بها وتأثيره على البيئة العمرانية والأمن المجتمعي، إضافة إلى الأبعاد القانونية المتعلقة بملكية الأنقاض.

الدمار حكاية بقاء

يعمل الفارس، ضمن ورشة صغيرة قوامها أربعة عمال، على استخراج الحديد من البيوت المدمرة بناء على طلب أصحابها، الذين يدفعون لهم أتعابهم مقابل هذه المهمة، التي يتفاوت حجم التعب والمخاطرة فيها من بناء إلى آخر، وفقاً له.

 

“ننتهي من سحب حديد سقف البناء العادي خلال يوم عمل واحد، بينما السقف الهوردي يحتاج عدة أيام”، لأن سماكة الأخير ضعف سماكة السقف العادي وفيه كميات حديد أكبر، بحسب الفارس، مشيراً إلى أن العائد المالي أيضاً يختلف من ورشة إلى أخرى، لأن “بعض الزبائن يعطوننا الحديد مقابل الجهد، والبعض يدفع دولاراً واحداً على المتر مربع للسقف العادي و2 دولار للسقف الهوردي”، وأحياناً يكون الاتفاق على “مبلغ مقطوع لكامل البناء”.

 

كثيراً ما يجد الفارس والعاملون معه أنفسهم “على حافة الخطر”، نتيجة “انهيار جزء من السقف من دون إنذار”، ويصطدمون ببعض التحديات الأخرى كأن “يستحيل سحب الحديد من بعض الأسقف بالمعدات اليدوية” فيضطرون إلى تركها، أو أن يخلّ صاحب العقار بالاتفاق معهم ولا يعطيهم حقهم، وفقاً له.

 

“لا يقتصر الخطر على انهيار السقف أثناء العمل فيه، وإنما أحياناً نواجه مخاطر أكبر، مثل وجود مخلفات حرب لم تنفجر”، ناهيك عن “الذكريات المؤلمة للأماكن التي نعمل بها: شخص مات هنا وآخر فقد قدمه هناك”، بحسب الفارس.

 

يرفض الفارس أن يطلق على عمله “مهنة”، لأنها “لا حلوة، ولا سهلة، ولا آمنة”، لذا “عملنا سبيل للعيش لا يوجد غيره”.

 

بعد انتهاء الفارس من العمل، يُسلّم الحديد لصاحب العقار، الذي يبيعه لورشات التجليس، أو “الجلاسات” كما يطلق عليها محلياً، وفي هذه الورشات يُستصلح الحديد ويُقطّع، ومن ثم يعاد بيعه كمادة مستعملة تستخدم في صب الأدراج أو بعض الأعمدة الثانوية، ويتراوح سعر طن الحديد المستعمل بين 200 و300 دولار بحسب جودته، بينما يصل سعر طن الحديد الجديد إلى 710 دولارات، كما أوضح الفارس.

 

الفارق السعري بين النوعين يسهم في رواج الحديد المستخرج، رغم الجدل حول صلاحيته الفنية ومدى تحمّله، بحسب الفارس الذي يعرف العديد من الأشخاص، بما فيهم جيرانه، استخدموا الحديد المستعمل في ترميم بيوتهم “لأن الجديد غالي”، وفقاً له.

 

في كثير من الأحيان “لا يكون العمل مجدياً” مقارنة بحجم التعب الذي يبذله العمال، وقد حصل ذلك مع الفارس مراراً وتكراراً، عندما يتفق مع أصحاب البناء أن يستخرج الحديد ويبيعه، وبعد انتهاء العمل “نكتشف أن السقف من دون حديد”، قائلاً بلهجته المحلية “يعني بعد التكسير يروح تعبنا عالفاضي”.

 

ورغم خطورة هذا العمل وانتشاره في المناطق المدمرة، لا يوجد تنظيم لهذا القطاع، وكثير من العمال يعملون من دون موافقات أمنية من الجهات المختصة، وهذا يعرضهم أحياناً لـ”الغش والنصب”، علاوة عن المجازفة بسلامتهم، بحسب الفارس.

 

لكن من أجل معايير الأمن والسلامة، يجب أن تمر عملية “رفع كل حجر من مكانه، وانتشال كل قضيب حديد عبر منظومة دقيقة من التنسيق والتفتيش” وهذا ما تفعله فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) في عمليات إزالة الأنقاض، كما أوضح المهندس علي محمد لـ”سوريا على طول” أثناء إشرافه على إزالة أنقاض مبنى في مدينة حلب.

 

وأضاف محمد: “لا نزيل حجراً دون إذن رسمي، ولا نهدم إلا وفق تقرير لجنة السلامة وموافقة قانونية من مالك العقار”، وهي إجراءات تتجاوزها ورشات استخراج الحديد من الإنقاض، كورشة الفارس.

 

الترميم يبدأ من الأنقاض

في بلد تعاني من إحدى أشد الأزمات الإنسانية في العالم، حيث يحتاج أكثر من ثلاثة أرباع سكان سوريا إلى مساعدات إنسانية، بعد أن دمّرت الحرب حياة الناس واقتصاد بلادهم والبنية التحتية، “لا تعني كلمة إعمار مجرد رفع جدران جديدة، وإنما تبدأ بصوت المهدّات لهدم ما تبقى من أنقاض واستخراج قضبان الحديد منها”، كما قال طه محمد الشاهين، صاحب ورشة لتجليس حديد البناء في بلدة كفرزيتا.

 

تُنقل قضبان الحديد التي يستخرجها العمال من المباني المدمرة إلى “الجلاسات”، وتبدأ هناك “عملية الفرز لاختيار القضبان غير المتآكلة من الصدأ، ومن ثم يتم تجليسها بمطرقة صغيرة يدوياً حتى تستقيم بنسبة 90 بالمئة، ومن ثم تفرز القضبان حسب سماكتها، 10 مليمترات و12 مليمترات، وهي العيارات المستخدمة في البناء”، بحسب الشاهين.

 

تبلغ القدرة الإنتاجية لورشة الشاهين طن واحد من الحديد يومياً، وتتراوح تكلفة “تجليس الطن الواحد بين 70 و80 دولار أميركي”، على حدّ قوله.

 

ورداً على سؤالنا عن آلية تقييم الحديد الصالح لإعادة الاستخدام في البناء، قال الشاهين: “يتم تقييم الحديد بالنظر إليه بالعين المجردة فقط”، أي من دون إجراء الاختبارات اللازمة، من قبيل: اختبار الشد، اختبار الانحناء، اختبار الإرجاع، اختبار الصلابة، اختبار مقاومة التآكل، وغيرها من الاختبارات.

 

وأضاف الشاهين: “لا توجد رقابة من الجهات المحلية، ولكن نحن لدينا مراقب خاص في المركز نثق به، وهو يقيم الحديد ويدوّن الملاحظات”، مستنداً في ثقته بالجودة على عدم ورود أي شكاوى من الزبائن.

 

“نرى في عملنا حلاً واقعياً ومكافحاً، خاصة مع غياب دور المنظمات في إعادة الإعمار وغياب البدائل الحقيقية وانخفاض القدرة الشرائية للمستهلك”، واصفاً عملية البناء باستخدام الحديد المستعمل بأنها عملية “إعمار شعبي”، ترمم الحياة فيها من حطام الحرب.

 

تعليقاً على ذلك، حذرت المهندسة المدنية صفاء كاشور من استخدام الحديد المعاد تدويره في البناء، قائلة لـ”سوريا على طول”: “تحت الأنقاض توجد كميات كبيرة من الحديد، قد يكون بعضها صالح جزئياً وبعضها الآخر قد لا يكون صالح نهائياً”، مشيرة إلى أن “بعض القضبان قد تبدو سليمة إلى حد ما، لكنها تعرضت لتشوهات حرارية وهيكيلية بسبب الانفجارات أو الحرائق، وبالتالي لم تعد لديها المواصفات القياسية لمقاومة الحديد على شد”.

 

وأضافت كاشور: “المشكلة أن معظم الذين يعملون في جمع الحديد لا يملكون أدنى معرفة بالمعايير الهندسية أو المخاطر التي تواجههم سواء من الناحية الصحية أثناء العمل أو من ناحية السلامة الإنشائية للبناء”.

بين الفوضى والتنظيم

كشف إبراهيم الإسماعيل، المكلف بتسيير وحدة إدارة المشاريع في محافظة إدلب، عن جانب مختلف من ظاهرة استخراج حديد أنقاض المباني، حيث تسود لغة التنظيم أو في أسوأ الأحوال محاولات تنظيمها، على عكس ما يحصل في الورش العشوائية.

 

“لا يوجد قانون ناظم حتى الآن”، وإنما يتم التعامل مع أنقاض البيوت “بالتنسيق مع مالك العقار، سواء كانت جهة خاصة أو عامة”، إذ “من غير المسموح لأي شخص استخراج الحديد من الأنقاض ما لم يكن المالك أو بموافقته”، كما قال الاسماعيل لـ”سوريا على طول”.

 

تعتمد وحدة المشاريع في ضبط العملية على عناصر “ضابطة البناء”، الذين يتحققون من ملكية العقار قبل السماح بأي عملية هدم أو استخراج، وإذا ثبت أن “الشخص يستخرج الحديد من عقار لا يملكه، يتم توقيفه إلى حين التأكد من حقيقة وضعه”، بحسب الإسماعيل.

 

وبينما أكد الإسماعيل على توقيف العديد من المنتهكين لملكية الآخرين، أشار إلى أن “حجم الظاهرة أوسع من قدرة المتابعة اليومية”، خاصة أن “الناس يجدون في جمع الحديد مصدر رزق جيد نسبياً وسط اقتصاد منهك”، ناهيك عن أن بعض الأشخاص فقدوا ثبوتيات عقاراتهم، وهذا يزيد من صعوبة ضبط هذا القطاع.

 

في المقابل، تعمل وحدة إدارة المشاريع بالتنسيق مع منظمات إنسانية على “إزالة وتدوير الأنقاض ضمن مشاريع مهيكلة، لضمان تنفيذ هذه الأعمال بسلامة وشفافية”، ما يعني أن هناك محاولات لتنظيم عمليات سحب حديد الأنقاض وإعادة تدويرها، لكن ما زالت بعيدة عن تحويلها إلى منظومة متكاملة وآمنة.

البناء بعد الحرب

في حي شعبي بمدينة إدلب، يعمل عبد المنعم، المعروف بين الناس بلقب “أبو مروان”، في تجميع الخردة وبيع المواد الأولية المعاد تدويرها من الأنقاض.

 

يشتري أبو مروان الحديد بـ”الكيلو”، ويتم فرزه بين حديد جاهز للبيع للمستهلك وآخر “مطعوج”، على حد قوله، يُباع لأصحاب محلّات التجليس من أجل استصلاحه ومن ثم بيعه.

 

في فترات الحرب الأكثر احتداماً، ازدهرت هذه التجارة من دون التدقيق في المواصفات والمعايير، لأن “الناس كانت تبحث عن ترميم بيوتها من أجل السكن والإيواء بغض النظر عن الجودة”، قال أبو مروان، الذي يشتري الحديد من أصحاب المنازل أو الباعة الجوالين.

 

بعد سقوط نظام الأسد، تراجع سوق الحديد المستعمل، بحسب أبو مروان الذي اشتكى من “ركود السوق”، وعزا ذلك إلى أن “الدولة بدأت تمنع استخدام هذا الحديد في البناء حرصاً على سلامة الأبنية”، وبالتالي صار يُباع من أجل الصهر وليس من أجل الاستخدام في الإنشاءات.

 

وتوقع أبو مروان تراجع سوق الحديد المستعمل شيئاً فشيئاً، مستشهداً بحديث الكثير من التجار، أن الطلب في قادم الأيام “سيكون على الحديد الجديد”، خاصة أن سوريا على مشارف مرحلة إعادة إعمار واسعة، بدعم إقليمي ودولي.

 

في دارة عزة بريف حلب، يهتم التاجر أحمد السيد بجودة الحديد ونوعه وسعره، مشيراً إلى أنه لا يتعامل إلا بالحديد الجديد والمستورد من تركيا أو إيران، ويتعامل حصراً مع أسماء شركات معروفة في سوق البناء، على حد قوله.

 

وأشار السيد إلى أن “المنظمات الإنسانية العاملة في شمال سوريا تحرص على استخدام الحديد الجديد المطابق لمعايير السلامة في مشاريعها، بينما المواطنين العاديين، خصوصاً أصحاب المنازل المتضررة، لا يمانعون في شراء الحديد المستعمل”، محذراً من أن “ليست كل أنواع الحديد تصلح” في البناء.

 

وأضاف: “الحديد المستورد أزرق وعليه معلومات تشير إلى نوعية القضيب ومتانته”، بينما الحديد المحلي قد يكون أصله مستعملاً، إذ “هناك من يجمع الصهاريج القديمة والهياكل المعدنية من أنقاض المباني ويصهرها ثم يسحب الحديد منها بقضبان لا تتجاوز سماكتها ثمانية مليمترات، وتباع بأسعار منخفضة”، كما قال السيد.

 

وتوقع السيد أن يكون مصدر أغلب الحديد المحلي “من مخلفات الزلزال، ويتم إعادة تدويره في معامل صغيرة، مثل تلك الموجودة في الأتارب، دون رقابة على جودته”.

 

وختمت المهندسة كاشور: “ما يؤلمني أن هناك أشخاص يخاطرون بحياتهم وسط الأبنية المهدمة من أجل تأمين دخل لا يتجاوز بضعة دولارات في اليوم”، ناهيك عن أن الحديد المستخرج، الذي “يُستخدم في البناء الشعبي دون فحصه مخبرياً قد يؤدي إلى كوارث مستقبلية”.

 

المصدر: موقع سوريا على طول

Read Previous

وزارة الصحة تصدر تعليمات جديدة بخصوص سلامة الأهالي في عيد الأضحى

Read Next

رفع أكبر علم سوري وسط دمشق في حديقة “تشرين”

Most Popular