أسامه الكومه – سيريا مونيتور
تدخل سورية مرحلة سياسية جديدة بعد سنوات طويلة من الصراع والانغلاق، مع تولّي الرئيس أحمد الشرع مقاليد الحكم خلفًا لنظام بشار الأسد الذي انتهى إثر انهيار متسارع للمؤسسات القديمة.
اختار الشرع العاصمة الروسية موسكو، التي تربط بينها وبينا دمشق علاقات تاريخية منذ القدم، محطةً مهمة في مساره الدبلوماسي بعد سقوط النظام السابق. الزيارة لم تكن مجرد رحلة بروتوكولية، بل حملت رسالة واضحة عن سورية الجديدة، التي تسعى لإعادة بناء صورتها في العالم بعد سنوات من الانكسار والتشتت. موسكو شهدت محاولة دمشق الانتقال من نموذج التبعية إلى صيغة أكثر توازنًا وشراكة، مع رغبة واضحة في الانخراط مع القوى الكبرى من موقع الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
ومنذ اللحظة الأولى لوصول الرئيس الشرع إلى الكرملين، بدا أن الزيارة تختلف عن الزيارات الرسمية السابقة. لم يكن التركيز على الاستعراض البروتوكولي أو الخطاب الحاد، بل على الهدوء في الأداء والانفتاح في اللغة.
وخلال المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال الشرع تعليقًا على صعوده درج الكرملين الطويل:
“نحن نستطيع الوصول إليكم دون أن نتعب، رغم درج الكرملين الطويل. عندكم درج طويل، جيد أننا نمارس الرياضة.”
الجملة البسيطة والعفوية حملت مغزى عميقًا عن رؤية الرئيس الجديد لطبيعة العلاقة بين سورية والعالم، وعن الصورة التي يريد أن يرسمها لبلاده: بلد يتقدم بخطوات ثابتة رغم التعب، ويحتفظ بروح الحياة رغم الصعوبات.
في علم الخطاب السياسي، لا تمر الكلمات العفوية مرورًا عاديًا، خصوصًا حين تصدر في لحظة تأسيسية. عبارة الشرع “نستطيع الوصول دون أن نتعب” تعكس إرادة الاستقلال في الحركة والقرار، بينما تشير “نمارس الرياضة” إلى القدرة على التحمل والتكيف. هذه العبارات ترسم ملامح خطاب جديد يقوم على الثقة الهادئة والمرونة بدل التصعيد والانفعال.
الدرج الطويل الذي تحدث عنه الرئيس أصبح رمزًا للطريق الذي قطعه السوريون منذ اندلاع الأزمة. فالصعود إلى الكرملين ليس مجرد حركة جسدية، بل رمز لصعود بلد أنهكته الحروب ويحاول الوقوف من جديد دون استعراض أو شكوى.
أهم ما يكشفه هذا المشهد هو التحول في الذهنية السياسية واللغوية للرئيس الشرع. فهو لا يعتمد خطاب القوة أو الشعارات، بل يتحدث كمسؤول مدني ينظر إلى السياسة كفن للتوازن. هذه المقاربة تشير إلى أن سورية في مرحلتها الجديدة تسعى إلى تخفيف حدة الخطاب الرسمي واستبدال نغمة المواجهة بنغمة الحوار.
الأسلوب الجديد يحمل بعدًا نفسيًا، إذ يعكس رغبة في كسر الجدار بين السلطة والمجتمع. فالزعيم الذي يمزح في مؤتمر صحفي لا يقلل من شأن الموقف، بل يعلن انفتاحه على العالم بلغة طبيعية، مقدّمًا نموذجًا قياديًا أكثر إنسانية، لا يتعالى على الجمهور ولا يخاطب الخارج من موقع الدفاع الدائم.
سياسيًا، تشكّل الزيارة إلى موسكو اختبارًا حقيقيًا للعلاقات السورية–الروسية بعد التغييرات الداخلية. فروسيا لا تزال لاعبًا أساسيًا في المشهد السوري، لكن طبيعة العلاقة مرشحة للتبدل من صيغة الاعتماد إلى صيغة الشراكة. في عهد الأسد، كانت العلاقة تقوم على الدعم مقابل الولاء، بينما يسعى الشرع اليوم إلى نموذج أكثر توازنًا يقوم على التعاون والمصالح المشتركة.
وعندما يقول “نستطيع الوصول دون أن نتعب”، فهو يعبّر ضمنيًا عن رغبة سورية في التعامل مع الحلفاء من موقع النّدية، لا الحاجة. إنها لغة جديدة في الدبلوماسية السورية، تعكس إدراكًا بأن زمن التبعية انتهى، وأن العلاقة بين دمشق وموسكو يجب أن تُعاد صياغتها على أسس مرنة تحترم السيادة المتبادلة.
في الداخل السوري، حظيت زيارة موسكو باهتمام شعبي غير مسبوق، ليس فقط لرمزيتها السياسية، بل لأن أسلوب الرئيس الجديد بدا مختلفًا عن نمط الخطابات السابقة. الجملة الطريفة حول “الرياضة” أصبحت حديث الشارع ووسائل التواصل، إذ كشفت جانبًا إنسانيًا من القيادة في بلد عانى من لغة الخوف والتوتر.
خارج سورية، قرأ المراقبون في تلك الجملة رسالة هدوء وتوازن، مفادها أن سورية الجديدة لا تبحث عن مواجهة، لكنها في الوقت نفسه لا تريد العودة إلى موقع التابع أو الانعزال. الانطباع العام أن دمشق تحاول أن تظهر دولة ناضجة سياسيًا، قادرة على التكيّف، لا نظامًا يعيش على ردود الفعل.
تمر سورية الآن بمرحلة دقيقة من إعادة البناء الداخلي والتكيّف مع الواقع الدولي الجديد. زيارة موسكو وما رافقها من تصريحات هادئة تُعدّ إشارة إلى نية الحكومة الجديدة المضي في سياسة انفتاح تدريجي، تقوم على الواقعية وتجنّب التصادم. هذه المقاربة قد تمثل بداية لحقبة أكثر هدوءًا في السياسة السورية، قائمة على “التحرك الذكي بدل التحصّن في المواقف”.
التحول في اللغة يعكس تحولًا في الرؤية: من خطاب القوة إلى خطاب التوازن، ومن الانغلاق إلى المشاركة، وهذا ما تحتاجه سورية لإعادة بناء الثقة داخليًا أولًا، ثم مع شركائها الإقليميين والدوليين.
الجملة التي قالها أحمد الشرع لم تكن مجرد طرافة بروتوكولية، بل رمز مكثف لرحلة وطن. الدرج الطويل في الكرملين يشبه طريق سورية نفسها: صعب ومتعب، لكنه يقود إلى الأعلى. وفي قوله “نستطيع الوصول دون أن نتعب” تتجلى فكرة القدرة على النهوض الذاتي بعد مرحلة طويلة من التبعية والإنهاك.
بهذا المعنى، يمكن اعتبار زيارة موسكو بداية فصل جديد في السياسة السورية، يتسم بالهدوء والعقلانية والإحساس الواقعي بحدود القوة والإمكان. سورية اليوم لا ترفع الشعارات، بل تمشي بخطى محسوبة على “درج السياسة” نحو موقع يعيد لها توازنها وكرامتها في آن واحد.