باعت أم سعيد كل ما تملك، حتى فرش منزلها، كي تدفع لـ”سماسرة” أوهموها بأنهم قادرون على تحديد مكان ابنيها المفقودين في سجون النظام في سوريا، لكن نحو 10 سنوات مرّت ولا تزال تجهل مصيرهما.
وتقول أم سعيد لوكالة فرانس برس عبر الهاتف من مكان إقامتها وسط سوريا: “كذبوا علي، والغريق يتعلق بقشة.. لو طلبوا قلبي لأعطيتهم إياه”.
استغلال بشع لآلام العائلات التي تبحث عن أبنائها
يستغل كثيرون معاناة أهالي المعتقلين والمفقودين الذي يبحثون عن أمل بسيط يتعلقون به لمعرفة ما إذا كان أبناؤهم على قيد الحياة أو لمحاولة إنقاذهم من سجون ومراكز أمنية ذائعة الصيت بممارسات التعذيب التي تنتهجها.
ويبحث الأهالي عن وسطاء لديهم علاقات في مؤسسات أمنية وقضائية، من محامين وتجار ونواب أو أمنيين. يطلب هؤلاء مبالغ طائلة مقابل وعود بتحديد مكان المعتقل أو تخفيف حكمه أو إطلاق سراحه أو حتى مجرد زيارته. منهم من يلتزم بوعده، وآخرون يفشلون.
وأحياناً، لا يذهب الأهل إلى السماسرة، بل يأتي هؤلاء إليهم، إذ تتلقى العائلات اتصالات من مجهولين يعدونها بصورة أو تسجيل صوتي لفرد منها معتقل، أو بمساعدته، لكنهم سرعان ما يتوارون عن الأنظار بعد حصولهم على المال. ويقدّم أحياناً المتصلون معلومات عن الشخص المعتقل لإقناع العائلة بالتعامل معهم.
وتحدثت وكالة فرانس برس مع ثمانية أفراد من أهالي المعتقلين، فضّلت غالبيتهم استخدام أسماء مستعارة خشية على حياة أبنائهم أو من الملاحقة الأمنية، خصوصاً أنه لا يزال أبناؤهم في المعتقل ومن بينهم أم سعيد (63 عاماً)، حيث اعتقل ابناها عام 2012.
“بعتُ فرش منزلي وذهب بناتي”
وتقول الوالدة التي تعاني من أمراض في القلب: “كلما قال لي أحدهم عن واسطة، أذهب إليه، حتى أصبحت على الحديدة”، مشيرة إلى أن أحد الوسطاء محامٍ طلب أكثر من مليون ليرة (أكثر من ثلاثة آلاف دولار في ذلك الوقت)، لكنه لم يأتِ بمعلومة واحدة. كما أنها اشترت هاتفاً جوالاً لشخص تعرفت عليه على أساس أنه يعمل في الأمن، وكان يحدّد لها مواعيد زيارات إلى سجن صيدنايا، وما أن تصل إلى هناك يتبين أنه لا إذن لها بالزيارة.
بعض الأشخاص الذين تواصلت معهم لا تعرف حتى هويتهم. وتقول: “بعت فرش منزلي وذهب بناتي.. لم يبق لديّ شيء، فقررت أن أستودع الله ولديّ”.
“سوق سوداء” لمصير المعتقلين في سجون النظام السوري
تقول الباحثة في الشأن السوري بمنظمة العفو الدولية، ديانا سمعان، لفرانس برس إن النظام السوري جعل الحصول على معلومات عن معتقلين أمراً “مستحيلاً”، ما خلق “سوقاً سوداء”.
وتضيف سمعان: “ينتهي الأمر بالعائلات المستميتة للحصول على معلومة، بدفع أموال طائلة، وأحياناً كامل مدخراتهم لوسطاء وسماسرة مقربين من الحكومة”.
بعد سنوات من دفع مبلغ قارب على 20 مليون ليرة سورية دون نتيجة، لم تستسلم عائلة سعاد (45 عاماً) بحثاً عن شقيقها (30 عاماً) المفقود منذ 2013.
في نيسان/أبريل الماضي، تواصل شخص مع العائلة المقيمة في مناطق سيطرة الفصائل الموالية لتركيا في شمال سوريا، واعداً بالإفراج عن الشاب مقابل مبلغ مالي سارعت العائلة إلى دفعه. وتروي سعاد أنه حين عاودت العائلة الاتصال بالوسيط، “أبلغنا بأن شقيقي توفي قبل ثلاثة أيام”.
وما إن مرّ أسبوعان حتى اتصل شخص آخر واعداً بتسجيل صوتي. وكان له ما يريد من المال، لكن العائلة لم تتلقّ إلا تسجيلاً غير مفهوم. وتقول سعاد: “لم نسمع شيئاً”.
باعوا منازلهم وأراضيهم من أجل معلومات مضللة
فيما أنفقت أم يحيى (اسم مستعار) “10 ملايين ليرة” دفعتها لمحامين و”سماسرة” ليأتوا لها بمعلومات عن ابنها المعتقل دون نتيجة، فقرّر زوجها التوقف عن الدفع بعدما باعت العائلة قطعتي أرض ومنزلها في إدلب (شمال غرب).
واعتقلت قوات النظام يحيى عام 2012. بعد ستة أشهر، تمكنت والدته من زيارته في فرع الأمن السياسي في إدلب التي كانت لا تزال آنذاك تحت سيطرة قوات النظام. وتقول: “خفت حين رأيته ولم أعرفه، كان وزنه لا يتجاوز 50 كيلوغراماً، فيما كان يزن 110 كيلوغرامات قبل اعتقاله”.
كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي رأت فيها ابنها بعد اعتقاله. وتقول أم يحيى (56 عاماً) التي تنقلت بين محافظة وأخرى للقاء وسطاء أو زيارة سجون ومراكز أمنية: “أريد أن أعرف إن كان حياً أم ميتاً”.
وبين المبالغ التي دفعتها العائلة 350 ألف ليرة لمساعد أول في الجيش وعدها بأنه سيحضر ابنها، قبل أن يتوقف عن الرد على اتصالاتها.
وطلب مكتب محاماة في دمشق أكد لها أن ابنها في سجن صيدنايا، خمسة ملايين ليرة مقابل نقله إلى سجن عدرا المركزي. وفعلاً سدّدت أم يحيى دفعات للمحامين بالسرّ عن زوجها.
قبل نحو عامين، طلب محام منها 10 آلاف دولار، لكن زوجها رفض الدفع. وتقول: “رجوته أن يقبل، واتهمته أنه يكرهنا.. فلو أتاني 100 شخص آخر، حتى لو كان الأمل واحد في المئة فقط، لأعدت التجربة”.
نصف مليون سوري دخلوا سجون النظام
ومنذ بدء النزاع عام 2011، دخل نصف مليون شخص إلى سجون ومراكز اعتقال تابعة للنظام، قضى نحو 60 ألفاً منهم تحت التعذيب أو نتيجة ظروف اعتقال مروعة، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
ويسعى الكثير من الأهالي لنقل أبنائهم من سجن صيدنايا الذي تصفه منظمة العفو الدولية بأنه “مسلخ بشري”، أو من الأفرع الأمنية، لتجنيبهم التعذيب والظروف الصحية السيئة أو حتى الموت.
أما “السماسرة” الأكثر نجاحاً في تنفيذ وعودهم، فهم المحامون أو التجار ممن لديهم علاقات وطيدة داخل الأجهزة الأمنية والقضائية.
وتشرح المحامية نورا غازي، مديرة منظمة “نو فوتو زون” المعنية بتقديم المساعدة القانونية للمعتقلين والمفقودين وعائلاتهم: “استثمر محامون العمل خصوصاً في محاكم الإرهاب” أحياناً لتسريع إحالة المعتقلين إلى القاضي.
وتشير إلى حالات يأخذ فيها محامون المال من العائلات رغم معرفتهم أن المعتقل سيخرج بكل الأحوال. وهناك “من يدفع منهم رشاوى للقضاة والأمن، ومنهم من يأخذ نسبة من المبلغ أو مجرد أتعابهم، وينجحون فعلاً في إخراج الشخص”.
المعتقلون وسيلة لجني ثروات طائلة استخدمها النظام
في تقرير صدر بداية العام الحالي، أوردت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن النظام السوري استخدم المعتقلين والمخفيين قسراً “وسيلة لجني ومراكمة الثروات وزيادة نفوذ الأجهزة الأمنية وقادتها والنافذين في حكومته وبعض القضاة والمحامين”.
واستناداً إلى مئات المقابلات التي أجرتها الرابطة في تقريرها مع معتقلين سابقين وعائلات مختفين قسراً، تبين أنهم دفعوا ما يفوق مليونين و700 ألف دولار للحصول على معلومات أو بناءً على وعود بالزيارة أو إخلاء سبيل.
فيما قدّرت الرابطة أن تكون عمليات الابتزاز المالي منذ عام 2011 أدخلت للنظام أو مقربين منه ما يقارب 900 مليون دولار. وقال ثلاثة أشخاص تحدّثت إليهم فرانس برس، إنهم أنقذوا معتقليهم بعدما دفعوا مبالغ طائلة، بينهم من دفع 40 ألف دولار لمجرد ضمان نقل المعتقل من صيدنايا.
فقد ذاق والد نزار (اسم مستعار) الأمرّين ليضمن بقاء ابنه على قيد الحياة بعدما اعتقل في جنوب البلاد بتهمة حيازة السلاح، رغم توقيعه في 2018 اتفاق تسوية مع النظام، وفق ما يروي شقيقه تامر الذي فضّل استخدام اسم مستعار. فحين علمت العائلة أنه نقل من فرع أمني في دمشق إلى معتقل صيدنايا، بات همّها إخراجه من هناك.
وعن طريق عائلات أخرى مرّت بالتجربة ذاتها، تعرفت العائلة على وسطاء عرضوا عليها التدخل لتخفيف حكمه بعدما أحيل إلى محكمة الميدان العسكرية التي يُمنع المحامون من الترافع فيها وتصدر الأحكام فيها خلال بضع دقائق، وغالباً ما تكون أحكاماً بالإعدام. وبين الوسطاء الذين تواصل والد نزار معهم نائب في البرلمان طلب 40 ألف دولار مقابل تخفيف الحكم ونقل نزار إلى معتقل آخر.
لم تثق العائلة بالنائب. لكنها عادت ودفعت المبلغ ذاته لمحام وعد بتخفيف الحكم ونقله من صيدنايا، بعدما وافق على تسلّم المبلغ بعد تنفيذ وعده “خلال شهر فقط، وهذا ما كان”.
بعد صدور الحكم، ورد اسم نزار في قانون عفو رئاسي لتخفيف حكمه وأطلق سراحه لاحقاً. ويقول تامر: “حتى لو كنا نعلم أن عفواً سيشمله، ما كنا صبرنا لأن كل ما أردناه هو أن نخرجه في أسرع وقت، فلا يخرج من صيدنايا إلا من كُتب له عمر جديد”.