سيريا مونيتور _ محمد حلاوي
في خضمّ التصعيد الإقليمي غير المسبوق بين إيران وإسرائيل، تجد الدولة اللبنانية نفسها مجدداً على شفير اختبار وجودي بالغ الخطورة، تُعاد فيه صياغة التوازنات الداخلية والخارجية على حدّ سواء. ففي حين تؤكّد الحكومة على تمسّكها المعلن بسياسة النأي بالنفس ورفض الزج بلبنان في أتون الصراعات الخارجية، يقف حزب الله على الضفة الأخرى، ممسكاً بخيوط القرار الميداني، وسط حالة من الترقب الحذر والتأهّب الصامت.
هذا التباين بين الموقف الرسمي وموقف الحزب، وإن اتسم حتى الساعة بقدر من الانضباط التكتيكي، ينذر بانفجار استراتيجي وشيك في حال قررت طهران تفعيل أدواتها العسكرية في المنطقة، وعلى رأسها “حزب الله”، ضمن معادلة “وحدة الجبهات”. فالبيانات الصادرة عن الحزب وكتلة “الوفاء للمقاومة” لا توحي بتوجه فوري للتدخل، لكنها تفتح الباب واسعاً أمام احتمال الانخراط العسكري لاحقاً، وفقًا لتحوّلات الميدان وقرار القيادة الإيرانية.
أمام هذا المشهد المربك، تبرز تساؤلات جوهرية حول كلفة انخراط “حزب الله” في المواجهة وانعكاسات ذلك على مستقبل الدولة اللبنانية التي تكافح لتثبيت استقرارها الهشّ بعد سنوات من الانهيار الشامل. فهل سينجح لبنان في الحفاظ على حياده أم أنه مقبل على سيناريو كارثي يعيد خلط الأوراق داخلياً ويزيد من عزلة البلد دولياً؟
بين الحياد الرسمي والتحرّك المشروط
في 16 حزيران 2025، شدّد كل من رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام، خلال اجتماع لمجلس الوزراء، على أنه يتوجب على لبنان “ألا يشارك بأي شكل من الأشكال في هذه الحرب”، معتبرَين أن أي انخراط سيكون مضراً بالبلد الذي لا يزال يعاني من تداعيات الحرب الأخيرة. بدوره، أكد وزير الإعلام بول مرقص أن الدولة اللبنانية تسعى إلى ضمان الاستقرار ومنع انزلاق البلاد إلى أي اشتباك إضافي.
في المقابل، يُظهر موقف حزب الله الحالي دعماً لفظياً واضحاً لإيران، من دون أي مشاركة ميدانية في الحرب حتى الساعة. ورغم إدانته الضربات الإسرائيلية ضد إيران ووصفها بـ”الخروقات الخطيرة”، وتأكيده على “التضامن الكامل مع الجمهورية الإسلامية”، لم يُعلن الحزب عن أي نية للتدخل المباشر. وقد أوضح نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم أن الحزب “لن يبدأ هجوماً ضد إسرائيل”، مع التزامه بترقّب تطورات المعركة وتوجيهات القيادة الإيرانية في حال تغيّرت المعطيات.
هذا التمايز الدقيق – أو التباين المبطن – بين الموقف الرسمي اللبناني الرافض لأي تورط، وموقف حزب الله “الحيادي المشروط”، يفتح الباب أمام قراءات متعددة ويعكس ما جاء على لسان بعض الصحافيين المحسوبين على الحزب، حيث أكّد الكاتب والمحلل السياسي قاسم قصير أنه “لا ضرورة حالياً لتدخل حزب الله في الحرب، فالصواريخ الإيرانية قادرة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي”، وهو موقف يتقاطع مع تصريحات عدد من نواب كتلة “الوفاء للمقاومة”، من بينهم النائب حسن فضل الله الذي شدّد على أن “إيران تقاتل عن نفسها وتعرف كيف تحمي شعبها وتواجه التحديات”.
غير أنّ قصير عاد واستدرك، معتبراً أن “لا شيء يمنع تغيّر الأوضاع إذا تطورت الأمور إلى حرب شاملة”، كما أن أبرز ما صدر عن حزب الله كان يوم أمس حيث أوضح أنه في حال تعرّض المرشد لأي استهداف فستكون العواقب وخيمة، ما يترك الباب مفتوحاً أمام أي تحوّل في حال حدوث تصعيد إقليمي نوعي.
سيناريو البقاء على الحياد
تعرّض الحزب لنكسة كبيرة خلال الاشتباك الأخير في العام 2024، خلال حرب الإسناد لغزة، حيث خسر عدداً من أبرز قياداته، وعلى رأسهم الأمين العام السيد حسن نصرالله وخليفته السيد هاشم صفي الدين. ووفقاً لتقديرات دقيقة، فقد الحزب أيضاً جزءاً كبيراً من ترسانته الصاروخية.
يرتبط الحزب بما يُشبه “اتفاقاً ضمنياً” مع الدولة اللبنانية، أُبرم برعاية أميركية–فرنسية، يقضي بعدم انخراطه في الحرب الحالية. كما أن العلاقة الجيدة مع الرئيس جوزيف عون تُعدّ عاملاً إضافياً يدفع الحزب إلى تفادي التصعيد في الوقت الراهن.
على المستوى الشعبي، تُبدي غالبية اللبنانيين – ولا سيما القوى المعارضة – رفضاً قاطعاً لزجّ لبنان في حرب جديدة. حتى ضمن البيئة الحاضنة للحزب، هناك تململ واضح نتيجة معاناة التهجير والخسائر البشرية والمادية التي تكبّدتها تلك المناطق في المواجهات السابقة.
سيناريو الانخراط في الحرب
في حال رأت طهران أن وجودها الاستراتيجي مهدَّد، قد تُصدر تعليمات مباشرة لحزب الله بالمشاركة، انسجاماً مع المعادلة التي يردّدها مسؤولو الحزب: “إذا دخلت إيران حرب وجود، سيكون لنا دور”.
تغيُّر جذري في موقف الدولة اللبنانية (سواء عبر تحوّل موقفها الحيادي، أو سقوط الحكومة نتيجة ضغط شعبي أو داخلي) قد يقلب المعادلة ويُعجّل بانخراط الحزب في المواجهة.
دوافع “حساسة” وذات أبعاد استراتيجية وأيديولوجية، منها:
- أمن إيران الحيوي: أي تهديد مباشر للجمهورية الإسلامية سيُعدّ تهديداً لمحور المقاومة برمّته.
- استعادة الاعتبار: بعد الأداء الدفاعي الضعيف في مواجهة العدوان الإسرائيلي السابق، والذي أفرز سلسلة من الاستفزازات الصهيونية المتواصلة في الجنوب اللبناني.
- حماية المحور: قد ترى طهران أن هيبتها على المحك، وبالتالي تحتاج إلى تفعيل أدواتها في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله، للرد على العدوان ضمن معادلة “وحدة الساحات”.
- الضغوط الداخلية: من جانب شرائح ضمن الشارع الشيعي المؤيد للمقاومة، والتي قد تطالب بالرد العسكري في حال تعرّضت إيران لهجوم مباشر وكاسح.
على أي حال، ووفقاً لمصادر سياسية لبنانية مطّلعة، فإن حزب الله لا يزال، في العلن، يتبنّى خطاباً هادئاً ومتّزناً تجاه الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، ولا يظهر أي إشارات مباشرة على التصعيد.
لكن، في الكواليس، تشير المعطيات إلى أن الحزب أنهى استعداداته الميدانية، وأعدّ بنك أهدافه بدقّة، ولم يبقَ أمامه سوى انتظار “لحظة الصفر”. وبحسب مرجع سياسي كبير مطّلع على دوائر القرار داخل الحزب، فإن القرار بالمشاركة قد اتُّخذ على أعلى المستويات، لكن توقيت التنفيذ يبقى رهناً بتطورات الميدان وميزان الاشتباك الإقليمي.
بيان كتلة “الوفاء للمقاومة”: تحشيد سياسي وإعلامي وتمهيد للتصعيد
صدر مساء الأربعاء الماضي بيان عن كتلة “الوفاء للمقاومة”، بدا وكأنه يدعم التحليلات القائلة باحتمال انخراط حزب الله في الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل. ويمكن تلخيص أبرز ما ورد فيه على النحو الآتي:
- إدانة شديدة للحرب الإسرائيلية على إيران، واعتبارها عدواناً استكبارياً واسع النطاق.
- تحميل الولايات المتحدة المسؤولية، من خلال منحها “الضوء الأخضر” وتقديم الدعم المباشر لإسرائيل.
- التحذير من انفجار شامل في حال انخراط واشنطن عسكرياً في الحرب.
- رفض التهديدات الإسرائيلية والأميركية بحق المرشد الأعلى الإيراني السيد علي خامنئي، واعتبارها عنصرية وخطيرة.
- تأكيد الدعم الكامل لإيران، في دفاعها عن نفسها وعن قضايا المستضعفين، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
- تحية لصمود إيران، ودعوة “أحرار العالم” إلى مساندتها في هذه المواجهة.
- تحميل المؤسسات الدولية المسؤولية عن الجرائم المرتكبة بحق إيران، واتهامها بـ”الصمت والتواطؤ” بما يهدد الأمن والسلم العالميين.
- التعبير عن ثقة تامة بانتصار إيران، والتأكيد أن الحرب ستفشل في كسر عزيمتها.
- التعزية بالشهداء الإيرانيين، والتشديد على أن دماءهم “ستقود إلى النصر والعزة”.
فهل يمهد البيان لانخراط حزب الله في الحرب؟
البيان لا يشير صراحةً إلى قرار عسكري، لكنه يعتمد لهجة تعبئة وتحريض واضحة ضد إسرائيل وأميركا، ويضع الحزب في موقع “الشريك العقائدي والسياسي” في ما يسمّى بـ”المعركة الوجودية” التي تخوضها إيران.
ومن المؤشرات التي قد تُقرأ كتمهيد لاحتمال الانخراط:
- اعتبار الحرب على إيران اعتداءً على مجمل الدول العربية والإسلامية، ما يُوسّع الإطار الجيوسياسي للصراع.
- التحذير من انفجار شامل في المنطقة، مما يوحي بأن ساحة المواجهة قد لا تبقى محصورة في إيران وإسرائيل.
- التأكيد على الوقوف مع إيران عسكرياً ومعنوياً، وهي صيغة حمّالة أوجه يمكن تفسيرها بأنها تبرير للمشاركة.
من هنا يمكن اعتبار أن البيان يؤسس لاحتمال توسيع المواجهة، وقد يكون خطوة أولى في تهيئة الرأي العام والبيئة الحاضنة لأي تحوّل ميداني مرتقب.
تحذير من كارثة شاملة
إذا قرّر حزب الله المشاركة في الحرب، فسيكون لذلك أثر فوري ومباشر على لبنان على عدّة مستويات:
- اقتصادياً: من حيث ارتفاع حاد في سعر صرف الدولار وتفاقم الانهيار المالي والنقدي. كما دخول لبنان في حلقة جديدة من العقوبات الدولية وتجميد برامج الدعم والمساعدات، إضافة إلى إنهاء أي أفق لإعادة الإعمار أو الإنقاذ الاقتصادي وفرض حصار اقتصادي شامل، يتضمن عقوبات مركّزة وإغلاق المطار.
- أمنياً: من حيث تصعيد خطير في استهداف البنى التحتية من قبل إسرائيل واستكمال حملة القصف التي بدأت في أيلول 2024، ولكن هذه المرة بشراسة مضاعفة. أضف إلى ذلك مخاطر حقيقية لاحتلال قرى ومراكز استراتيجية في الجنوب، خصوصاً بعد نزع سلاح وإخلاء نحو 500 موقع عسكري لحزب الله جنوب الليطاني، كما توسّع دائرة التصعيد إلى الداخل اللبناني.
- سياسياً: من حيث اهتزاز شرعية الحكومة وفقدان مصداقيتها، خصوصاً إذا اعتُبر أن حزب الله يفرض القرار العسكري على الدولة. من هنا احتمال استقالة الحكومة أو مواجهتها لانقلاب شعبي سيزيد الشرخ بين مؤسسات الدولة و”سلطة الأمر الواقع”.
حتى اليوم، يبقى خط الدولة اللبنانية الرسمي واضحاً: الحياد وعدم المشاركة في الحرب، ولكن هذا الموقف مرتبط بسلوك حزب الله نفسه. فالحزب يواجه ضغوطاً داخلية وخارجية، وما لم يتلقَّ أوامر مباشرة من طهران، يبدو أن خيار الحياد هو الأكثر ترجيحاً حتى اللحظة. لكن في حال تغيّرت المعادلات واندفع لبنان نحو نفق الحرب، فإن النتيجة ستكون انهياراً شاملاً على كافة الصعدة.
لذا فالجميع مدعو، اليوم قبل الغد، إلى التمسّك بموقف الحياد التام، وممارسة ضغوط سياسية وشعبية حقيقية لتجنّب الانخراط في الحرب، قبل أن يفوت الأوان ونجد أنفسنا نندب وطنًا كان يُسمّى لبنان.