ترجمات
في العام 2014 هرب آخر شخص من طاقم المركز الدولي للأبحاث الزراعية الواقع في منطقة إيكاردا جنوب حلب وتحديداً على طريق دمشق-حلب الدولي وذلك بسبب الحرب المندلعة في البلاد منذ بدء الثورة في 2011.
وقبيل خروج طاقم المركز من بنك الجينات الزراعية شحنوا من البنك مورداً لا يقدر بثمن: وهو بذور أهم المحاصيل على الأرض.
البحوث الزراعية في إيكاردا
منذ افتتاح منشأة البنك الزراعي للبذور في إيكاردا في العام 2008 وضع الطاقم الدولي فيه أنواعاً فريدة ومختلفة من “حمص الشام، العدس، الفول، القمح، الشعير” وذلك وفقاً لما ذكره موقع Wired الأمريكي.
وقد صنعوا نسخة احتياطية من مجموعتهم، وهذه ممارسة معتادة في 1700 بنك لجينات البذور حول العالم، إذ تُحفظ الجينات التي تمنح المحاصيل الأساسية مقاومة الأمراض والآفات والتغير المناخي.
والحرب في سوريا هي المثال على سبب وجود هذه البنوك من الأساس، فالكنوز الموجودة داخل منشأة إيكاردا تتطلب متابعة دائمة، ومع استمرار اشتداد الحرب، زادت صعوبة الحفاظ على هذا المخزون.
إلى أين تم شحن البذور؟
الوجهة التي ذهبت إليها هذه القطع الصغيرة من المعلومات الوراثية هي الخزنة العالمية للبذور في سفالبارد، وهي منشأة في منطقة متجمدة دائماً تقع على جزيرة نائية في القطب الشمالي.
ففي الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2014 أرسل الباحثون شحنات هذه البذور قبل خروجهم من المنشأة، وتحتوي هذه الشحنات على نحو 116 ألف عينة للبذور تمثل كل منها مجموعة من النباتات من موقع معين، ليتم تبريدها في حزمٍ بسفالبارد حيث درجة الحرارة -18 درجة مئوية. وهذه العينات تمثل 83% من كافة محتوى إيكاردا وقت اندلاع الحرب في سوريا.
توزيع البذور على بلدان أخرى
بحلول عام 2015، قرر طاقم إيكاردا بدء توزيع هذه البذور، فالبنك الجيني يوجد لحفظ البذور الفريدة، لكنه يوجد أيضاً لتوزيع هذه البذور للباحثين والمزارعين.
لذا صاروا أول الطواقم، وآخرها حتى الآن، الذين سحبوا العينات من سفالبارد، وفحصوا الحزم التي تحتوي على عشرات الآلاف من العينات وشحنوها إلى عمليات فرعية في المغرب ولبنان، ومن كل عينة أخذوا 300 بذرة، وبدأوا زراعتها.
نجاح زراعة العينات وتخزين عدد أكبر من السابق
وعلى مدار الأعوام الـ5 الماضية، نجح الطاقم في زراعة أكثر من 100 ألف نبات من العينات الأصلية، وشحنوا 81 ألف عينة جديدة إلى سفالبارد لتعزيز المخزون.
وشحنوا كذلك البذور الجديدة إلى أنحاء العالم لكل من يطلبها، ومن بين ذلك العلماء الراغبون في إجراء أبحاث لإنتاج نوعٍ من القمح مقاوم أكثر للجفاف، والمزارعون الذين يحتاجون إليها للبقاء في كوكبٍ يتزايد احتراره بسرعة غير مسبوقة.
وهذا يمكن أن يجعل الباحثين هم المشرفين على الإمدادات الغذائية للبشرية بأسرها في المستقبل، بتعزيزهم من مرونة وبقاء المحاصيل الغذائية مثل الشعير والقمح والحمص، وكذلك أعلاف الماشية مثل البرسيم والفصفصة.
مستقبل البشرية يعتمد على هذه الأنواع من البذور
قبل 11 ألف عام، أنتج الهلال الخصيب الموارد الغذائية الحديثة للبشر، في المكان الذي كانت إيكاردا تعمل منه على مدار 40 عاماً مضت. وفي حزامٍ كبير من الأراضي الخصبة الممتدة من مصر إلى الخليج، زرع الناس الجذور- الحرفية والمجازية- ليتخلوا عن الصيد وجمع الثمار ويتبنوا حياة الزراعة المستقرة.
زرعوا القمح والشعير في بيئات محكومة، باستعمال الري والحرث، ومع زيادة كميات الغذاء زاد عدد السكان، وزادت احتياجاتهم من الأغذية.
واليوم، يعتمد 8 مليارات إنسان في العالم على هذه المحاصيل الأساسية، والسلالات الجينية المتحدرة من هذه الأنواع البرية، التي يتم تهجينها لتصبح أكثر إنتاجية.
وصارت هذه المحاصيل هي محاصيلنا الأحادية، فحقول واسعة من القمح تنتج الكثير والكثير من الغذاء، لكنها ليست ماهرة في إبعاد الآفات والأمراض، وهذه مشكلة من مشاكل التنوع الوراثي، أو غيابه في هذه الحالة.
فحين بدأ أجدادنا يختارون نباتات القمح التي تنتج أكبر كمية من الغذاء، فقد صنعوا خطوطاً وراثية أحادية تفضل الأنواع ذات الإنتاج الزائد.
لكن القمح البري الموزع في بقعة من الأرض أكثر تنوعاً من الناحية الوراثية، أي أنه يمثل مجموعات مختلفة من النباتات بخصائص مختلفة.
بعضها قد يحصل على جينات الحظ التي تمكنه من مقاومة حشرة أو مرضٍ بعينه، والنجاح لتمرير هذه الجينات.
لذا حين تأتي الآفة أو الوباء، ستنجو بعض نباتات القمح وتوفر بعض الغذاء على الأقل.
لكن حين استعمل المزارعون في العصر الحديث نفس النوع من القمح، صار المحصول المتجانس أكثر عرضة للكوارث، وإن لم ينتقِ المزارعون المحصول المقاوم للخطر المعين الذي يواجههم، يمكن أن يفقدوا حصاد محاصيل كاملة.
عينات قمح مقاومة لصدأ الساق
وهذا بالضبط ما يحدث الآن مع قدوم مرضٍ يصيب القمح يُدعى صدأ الساق، يسببه فطر يحمل اسم Ug99، ينتشر بسرعة في أنحاء إفريقيا، ومن أهم أسباب ذلك أنه يهدد 80 إلى 90% من أنواع القمح العالمية.
لكن إيكاردا زودت الباحثين بعينات قمح يؤمل أن تكون مقاومة للمرض.
“ونعم، وجدوا ما أرادوا”، وفقاً لأحمد عمري، الرئيس السابق لوحدة الموارد الوراثية، الذي أكد أنّ تلك العينات بدأت برامج تهجين ناجحة لتطوير أنواع مقاومة للمرض.
ولهذا من المهم للغاية أن تصنع إيكاردا، أو أي بنك جيني آخر، نسخاً احتياطية من مجموعاتهم، عن طريق إرسال البذور إلى سفالبارد.
ونحو 80% من مجموع البذور في إيكاردا مصنوعة من الأنواع البرية والنباتات الأصلية، والأخيرة هي أنواع فريدة من النباتات طورها المزارعون في منطقة معينة.
وقد تمكن طاقم إيكاردا من صنع احتياطي لـ 98% من مجموعتهم في 11 بنكاً آخر في أنحاء العالم، لكنهم قرروا أن الأفضل هو السحب من سفالبارد، التي تستضيف مجموعة أكثر اكتمالاً من أي من النسخ الاحتياطية المفردة الأخرى.
بنك سفالبارد للجميع
وفي النهاية، نجاح باحثي إيكاردا لن يكون لهم وحدهم، لكنه نجاحٌ للتعاون الدولي أيضاً.
ففي عام 2001، توحدت الدول في المساعي إلى التنوع البيولوجي الزراعي عبر المعاهدة الدولية بشأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة، التي وقعها 146 طرفاً من بينهم الاتحاد الأوروبي.
ويقول أولا وستنغن، الذي نسق في السابق عمل خزنة سفالبارد ويعمل الآن بالجامعة النرويجية لعلوم الحياة: “قبل هذه الاتفاقية الدولية، كان هناك انعدام في الثقة بين البلدان، وإحساس منهم بأننا ينبغي علينا أن نقوم بالأمر وحدنا، لذا كان الموقف هو تواجد العديد من البذور الفريدة أو التنوع الوراثي في بنك جيني واحد في بلدٍ واحد- وبالطبع هذه العينات تكون معرضة للخطر إن حدث شيءٌ لأي بنك جيني بعينه”.
لكن افتتاح سفالبارد غير كل هذا، الآن تتشارك البنوك الجينية في أنحاء العالم مستودعاً مشتركاً، صمام أمان ضد كارثة مثل ما حصل في سوريا.