سيريا مونيتور
“توازنات التحاصصات” عبارة استخدمت في تقرير لصحيفة عربية، يحكي عن الجهد الذي يبذله بشار الأسد، من أجل أن يقدم لداعميه الرئيسيين الإيراني والروسي المقابل الاستثماري الاقتصادي، بدلاً عن وقوفهم معه، وحمايتهم له، طيلة السنوات الماضية. فالمطلوب هو ألا يتغلب طرف على طرف آخر بينهما، وبما يضمن ألا يسيطر أحد منهما لوحده على المقدرات السورية.
تَصرفُ النظام بلا حسيب أو رقيب بثروات السوريين، ووضعها في خدمة حلفائه، يقابله في السياق الداخلي غياب للتوازنات والتحاصصات، فالبلاد كلها متاحة لجهة مؤسسات الدولة الرسمية المسيطر عليها من قبل الأسديين، وتدار بما يخدم استمرارية تسلطهم، وكذلك فإنها مباحة -وهنا بيت القصيد- لجهة أخرى، هي الأمانة السورية للتنمية! التي لا صفة رسمية لها، سوى أنها مؤسسة السيدة الأولى أسماء الأسد!
ببساطة ومن دون عناء، يمكن لأي أحد اكتشاف الامتيازات التي يتمتع بها هذا الكيان، وقد سبق أن تمت الإشارة في عدة تقارير صحفية إلى مشاريع ثقافية استثمارية محلية، جرى تحويلها لصالح المؤسسات التنفيذية التي تشتمل عليها، كتوليها ترميم منطقة التكية السليمانية، بعد ترحيل الحرفيين إلى حاضنة تابعة لوزارة الثقافة في مشروع دمّر، وكذلك قيامها بترميم القصور المتضررة من حريق حي ساروجة، حيث ظهر أن تسلم المشروع، تم من دون القيام بالإجراءات القانونية، كالإعلان عن مناقصة وغير ذلك. الأمر الذي يؤشر فعلياً إلى أن المؤسسات الرسمية تستنكف بالإجبار، عن ممارسة دورها أو فرض إجراءاتها، لصالح الأمانة.
آخر ما يمكن الالتفات إليه، هو تمدّد عملها نحو النسخة الثامنة، من “مبادرة تحدي القراءة العربي” للعام 2023 -2024 على مستوى المدارس، وهي مسابقة تجرى على مستوى البلاد بإشراف وزارة التربية عادة، لكن هذه الأخيرة تبدو وكأنها مجرد ممر، للدور الذي تقوم به الأمانة، التي تبدو مشغولة بالحصول على التمثيل المادي والمعنوي في مساحة عربية (دبي تحديداً) يقود إليها هذا النشاط، خاصة وأن النسخة السادسة منه، شهدت فوز التلميذة السورية شام بكور، بالجائزة المدرجة ضمن “مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية”.
غير أن الحضور المعنوي، الذي تلهث مؤسسات أسماء الأسد من أجله، ليس سوى الواجهة من حضور اقتصادي احتكاري، تتسلل فيه أصابعها، فتصل إلى كل المدن السورية، ولاسيما تلك التي دمّرت حرب النظام ضد الثائرين بناها التحتية.
وفي هذا السياق، لا تخفي الأخبار الاتفاق الذي وقعه المدير التنفيذي للأمانة شادي الإلشي مع رئيسي غرفتي صناعة وتجارة حمص لبيب الإخوان وإياد دراق السباعي، من أجل ترميم أسواق حمص التراثية، بهدف إعادة عجلة الحياة إليها.
ما يستحق التوقف عنده هنا، يبدأ من تاريخ خراب حمص، حيث إن الحصار الذي فرضه النظام على الأحياء المنتفضة ضده، انتهى في شهر أيام لعام 2014، بخروج المحاصرين إلى أمكنة أخرى، وقد جرت عملية ترميم أولى في العام 2016 على يد الفرع الإنمائي للأمم المتحدة UNDP، وبتمويل من اليابان وشركاء آخرين، لكن هذه الإجراءات لم تصل إلى المتاجر ذاتها، ولم يُقبِل أصحابها على ترميمها، لأسباب متعددة، ترتبط قبل أي شيء بالوضع السياسي العام في البلاد.
فبعد مرور عشر سنوات، لا يشعر السكان بجدوى ترميم ما تهدم من الأملاك السكنية أو التجارية، خاصة وأن النظام وضع هذا الأمر ضمن بند في ورقة إعادة إعمار، ليستخدمها في سياساته العربية والدولية، فهي مشروطة بفك الحصار عنه، بينما اشترطت القوى الدولية من أجل المشاركة فيه وتوفير الأموال اللازمة له، أن يتم البدء بتنفيذ القرار 2254، المبني على الشروع بعملية سياسية تفضي إلى هيئة حكم انتقالي ذات مصداقية تنهي التسلط في البلاد.
الأمانة السورية للتنمية كسلطة أمر واقع، تستطيع أن تفتح الأبواب المغلقة بإحكام أمام الآخرين، وهنا لا نتحدث عن المستثمرين، بل عن أصحاب الأملاك أنفسهم، أي أولئك الذين انتهى حالهم، بين النزوح الداخلي واللجوء في أنحاء المعمورة. وهنا لن تخفي دورها وغايتها في الاتفاق الحالي، فهي بحسب بيان نشرت وكالة سانا الرسمية تفصيلاً منه: “ستضع كامل تجربتها في العمل المجتمعي وخبرتها في التعاطي مع خصوصية المدن والأسواق التراثية لتنظيم الجهود والتنسيق مع الشركاء وجميع الجهات لتحديد احتياجات مجتمع التجار وشاغلي الأسواق وتقديم الخدمات القانونية اللازمة بما يتناسب مع إحياء القيمة الثقافية والمجتمعية والاقتصادية لأسواق حمص التراثية”!
وربما تنبئ العبارة الواردة هنا حول الخدمات القانونية اللازمة، إشارة إلى ما يمكن فعله تحت هذه السلطة وهيمنتها، فإذا كنا نعرف أنه من المستحيل لأصحاب الأملاك من اللاجئين التصرف بأرزاقهم دون الموافقات الأمنية الإلزامية، والتي لا يمكن للمعارضين أن يحصلوا عليها، فإنه من المتوقع أن تشمل هذه الإجراءات إخضاع هؤلاء لصفقات غير عادلة، تجبرهم على التخلي عن أملاكهم، بعد أن صار من المستحيل عليهم التصرف بها، في ظل استمرار النظام في تعنته، ورفضه للحلول المتاحة للأزمة المستمرة منذ العام 2011.
هل يمكن لأي من “الحماصنة” الذين شهدوا الاتفاق في خان القيصرية بمنطقة الأسواق التراثية في المدينة القديمة، أو لأولئك الذين تم التواصل معهم عبر شبكة الإنترنت في الجلسة ذاتها، أن يبحثوا خيارات أخرى، مع جهات محلية أو أجنبية أخرى؟
هنا، لن يجد هؤلاء في قاموس النظام، أو بين أدوات تفكيره تجاه السوريين أنفسهم، ما يستحقونه من العدالة والحرية والإنصاف في مسألة اقتصادية تخصهم، بل سيغيب فقه “توازنات التحاصصات”، المبذول بكرم وسخاء للإيرانيين والروس، لتحل مكانه صيغة الاستيلاء، من خلال عقود إجبارية، تفرضُ على الضحايا أن يخسروا ما يملكونه في بلادهم، بعد أن فقدوا حضورهم فيها، وصاروا بعيدين عنها.