في المناطق الموالية للنظام كالمناطق المعارضة له، تشهد سوريا ارتفاعاً كبيراً في عدد حالات الانتحار حسب الأرقام المعلن عنها من المنظمات الحقوقية أو من طرف الطب الشرعي في البلاد، فالوضع الاجتماعي والنفسي أزَّم الوضعية ودفع بالكثير من السوريين إلى اختيار الأسهل، الانتحار.
الانتحار في سوريا لا علاقة له بالعمر ولا بالجنس، فالظاهرة لم تستثنِ أحداً، وفي سنة 2020، بدأت الأرقام تعرف ارتفاعاً استثنائياً غير مسبوق، الأمر الذي تُرجعه الدراسات الميدانية إلى صعوبة الظروف المعيشية التي تُسبب أمراضاً نفسية، ومشاكل اجتماعية أخرى تدفع بالبعض إلى الانتحار، خصوصاً في غياب أي رقابة وسبل للعلاج.
السوريون والانتحار.. حكاية مأساة
في شمال سوريا تعيش أم أحمد، الأرملة النازحة، في أحد المخيمات بالمنطقة. حاولت أم أحمد الانتحار 3 مرات، فالأم وجدت نفسها عاجزة عن توفير الاستشفاء لطفلة تعرضت للحرق فلم تجد بديلاً غير إنهاء حياتها.
تقول أم أحمد في حديثها مع “عربي بوست” إنها عانت الفقر والحاجة، ونامت أكثر من مرة دون أن توفر وجبة العشاء لأطفالها الثلاثة، وبعد تعرُّض طفلتها الصغيرة للحرق، بدأت تُفكر في التخلص من الحياة، مرةً بمحاولة حرق جسدها، ومرتين بتناولها السم، لكن في كل مرة كانت عيون أطفالها تمنعها من إكمال الخطوة.
أم أحمد وجدت توازناً نسبياً لحياة، واستطاعت أن ترسل طفلتها للعلاج في المستشفيات التركية، وأمنت لنفسها عملاً داخل مشغل للخياطة مقابل 20 ليرة تركية، ورغم هزالة المبلغ فإنه يسد رمق أطفالها، ويمنعها السؤال والحاجة.
لم تكن أم أحمد هي الوحيدة التي دفعها الفقر إلى محاولة الانتحار، فالأزمة النفسية التي تُخلفها الحرب في سوريا لم تستثنِ أحداً، ولا تختار بين الصغير والكبير والرجل والمرأة، وأمام تدهور الوضع الاقتصادي أصبح الجميع سيان أمام ظاهرة الانتحار.
أم محمود تحدثت أيضاً إلى “عربي بوست” بصفتها الزوجة التي ساندت رفيق دربها ومنعته من الانتحار أكثر من مرة، بعدما ظهرت عليه آثار أمراض نفسية دفعته إلى القيام بسلوكات حاول بها إنهاء حياته، مرةً بمحاولة رمي نفسه من منطقة جبلية ليلاً، ومرةً برمي نفسه أمام السيارات بالطريق العام.
تقول أم محمود لـ”عربي بوست” إن أعراض مرض نفسي بدأت تظهر على زوجها بعد تدهور حياتهم المعيشية وتردي وضعهم الاقتصادي، ونزوحهم من قريتهم جنوب إدلب وعدم قدرته على توفير فرصة عمل تؤمن له عيشاً كريماً وتوفر لأسرتهم أساسيات الحياة الطبيعية.
أم محمود اختارت أن تعالج زوجها من الأمراض النفسية قبل أن تتفاقم حالته، وبدأت بالتردد بشكل أسبوعي على الطبيب الوحيد في المنطقة المحررة بمدينة سرمدا الحدودية، وهو طبيب للأمراض النفسية يستقبل يومياً العشرات ممن يعانون من اضطرابات نفسية، قصدوا العيادة للعلاج.
تعددت الأسباب وغاب الحل
تتعدد الأسباب والنتيجة واحدة، حياة شخص تُنهى بطريقة مأساوية بسبب عدم القدرة على الاستمرار، ففي مدينة حلب السورية، حسب الناشط الحقوقي محمد.م، فأسباب الانتحار تعود إلى تدهور المستوى المعيشي، والتي غالباً ما تُعتبر سبباً رئيسياً في تدهور الحالة النفسية وتدفع البعض إلى الانتحار، فضلاً عن الانفلات الأمني وغياب القانون الذي زاد من العنف الأسري ودفع بعض الزوجات أيضاً إلى الانتحار.
وأشار المتحدث إلى أنه في حال لم توفر حكومة النظام الحياة الكريمة للمواطنين من خلال رفع المستوى المعيشي وتأمين مستلزمات المواطن السوري بما يتناسب مع دخله، وإطلاق حملات التوعية النفسية، من المؤكد أن ظاهرة الانتحار ستعرف ارتفاعاً جديداً.
وفي مناطق المعارضة السورية، وبعد البحث والتقصي عن أسباب ارتفاع ظاهرة الانتحار تبين أنها لم تختلف كثيراً عن المناطق التابعة للنظام والتي تُلخص في “انهيار المستوى المعيشي وحالات العنف وغياب القانون”.
بكار حميدي، الناشط الميداني والإنساني في مدينة إدلب، يقول إنه على المنظمات الإنسانية والكوادر الطبية رفع مستوى التوعية والإرشادات بين المواطنين، وتوعيتهم من مخاطر الأمراض النفسية التي تدفع في النهاية إلى الانتحار.
وأضاف المتحدث أنه يتوجب على الكوادر الثورية، أيضاً، والإدارات والمنظمات توفير فرص العمل للشباب وأرباب الأسر وتأمين مستلزمات الأسر التي لا تملك معيلاً أو مصدر رزق يؤمن قوتها لمنع وقوع حالات الانتحار.
أرقام مخيفة
تدهور الوضع الاجتماعي في سوريا بسبب الحرب وارتفاع حالات الانتحار أصبحت توثقه هيئات ميدانية بالأرقام، فالناشط الحقوقي في محافظة إدلب مؤيد الحسين، قال في تصريح لـ”عربي بوست” إن عدد حالات الانتحار في سوريا ارتفع في سنة 2020، والأزمة لم تعد تفرق بين أحد، فحتى نوفمبر/تشرين الثاني 2020 تم تسجيل 18 حالة انتحار في مناطق إدلب والمخيمات الحدودية، فيما فشل 18 آخرون في الانتحار، وتم نقلهم إلى المستشفيات لتقديم العلاج والتوعية النفسية.
وأضاف المتحدث أن أسباب الانتحار غالباً ما تكون نتيجة الانهيار النفسي أو العنف الأسري، كما حدث مع المعلمة ميساء درباس (33 عاماً) في أطمة شمالي إدلب، التي كانت ضحية عنف زوجي وقررت الانتحار مطلع شهر سبتمبر/أيلول 2020، عن طريق تناولها حبوباً سامة أنهت حياتها على الفور.
محافظة إدلب ليست وحدها المعنية بظاهرة ارتفاع حالات الانتحار في البلاد، فسوريا أصبحت على حافة انهيار نفسي حسب ما كشف عنه (م.س)، عامل بالكادر الإداري المختص بالطب الشرعي بدمشق الخاضعة لسيطرة النظام.
وحسب الأرقام الرسمية، ففي سنة 2020 تم إحصاء 132 حالة انتحار لسوريين من مختلف المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام “دمشق وحلب واللاذقية وطرطوس”، ومن مختلف الفئات العمرية بينهم مراهقون، بمعدل حالة انتحار كل يومين تقريباً.
واعتبر المتحدث أنه بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية، فالمجتمع السوري أصبح يعيش خطراً بسبب ارتفاع حالات الانتحار وغياب عملية جرد للأسباب الرئيسية والبحث عن سبل علاجها من قبل الحكومة للحد من الظاهرة.
وحسب المتحدث فإن التقارير الطبية، ونتائج التحقيقات تقول إن 82 حالة انتحار تمت عن طريق الشنق، بينما الحالات الأخرى تمت عن طريق إطلاق النار على النفس، والباقي إما عن طريق تناول السم أو السقوط من مبانٍ عالية.
وسجلت مدينة حلب، حسب الإحصائيات الرسمية أكثر حالات الانتحار خلال سنة 2020، وذلك بـ33 حالة انتحار 8 منهن إناث، تليها مدينة دمشق 27 حالة والباقي توزع في محافظات أخرى كاللاذقية وطرطوس ودرعا والسويداء.
عربي بوست