سيريا مونيتور _ معبد الحسون
ابتداء من اليوم الأحد 27 / 9 / 2020 ينشر موقع سيريا مونيتور على صفحاته رواية ضيف الموقع وأحد كتابه الجدد، الأستاذ الكاتب معبد الحسون، روايته الجديدة، وهي بعنوان: (حين نُفِخَ في الصُّور). ليكون إضافة مُتحِفة لزوار موقعنا الوليد حديثاً، وذلك بالمواظبة على نشر الرواية على شكل فصول، وسيكون موعد نشر كل فصل في الرواية نصف أسبوعي، كل مساء أحد وخميس. آملين من ذلك أن تجمع هذه الإضافة لمتابعي موقعنا الفائدة ومتعة السرد الذي تعودناه منه.
الفصل الأول
كثيراً ما كنتُ أشعرُ بالاعتزاز والفخر حينما يتحدث إليَّ البرنس، كما يتحدث إلى الكبار.
البرنس مثقف جوال متشرد. شديد الذكاء والفطنة والإلمام بالمعارف، مع دماثة في الخلق وطيبة في النفس. إنه ذلك الصنف من البشر الذين “يعرفون كل شيء”. يُرى دوماً وهو يتأبط كتباً لا يَعرف أحدٌ ماذا تحتوي. يلقي بحكمته ومواهبه الكلامية ذات اليمين وذات الشمال، ولا يبخس الناس أشياءَهم. يرضى بأن يُضَيِّفَه مستمعه سيكارة، مقابل أن ينثر كلماته المؤثرة والبليغة الإدهاش على مستمعيه مجاناً.
لا يعرفُ أحدٌ في حارتنا له أصلاً ولا فصلاً، ولا أين يثوي أو يقطن، فلا أقرباء له ولا زوجة ولا أبناء. البرنس عمرُه من عمر الحكمة، ووجهه المضيء أسطع من نثرات الفلسفة البليغة التي ينثر بها الجميع غدوة ورواحاً، كما ينثر الفلاح حبات القمح في شقوق التراب.
يقول لي البرنس:
ــ صدّقْ يا محمود بأن الأخلاق هي حاجة للمجتمع وليس للأفراد. الأفراد لا يحتاجون إلا الحرية، والحرية باب الأخلاق الذي يلجُ منه الجميع. ولذلك تراهم يقايضون بعض حريتِهم ليشتروا بعض الأمان من مجتمعهم بالأخلاق.
فأنبهر من كلماته التي تُخَدِّر الرأس وتصرع اللبُّ، وإن كنتُ لا أفهم كثيراً مما يقول. بينما هو يتدفق بالكلام تدفقاً:
ــ تخيلْ يا محمود أنّ إنساناً يعيش في هذه المجتمعات، وقد انتقل فجأة للعيش في كوكب من كواكب المجرة.. كوكب المريخ على سبيل الفرض.. وتخيلْ أن الكوكب صار بأكمله له، ملكه وحده، لا يعيش معه أحد، ولا يساكنه فيه أحد. ثم تخيلْ أن هذا الإنسان قد ارتكب أمراً فظيعاً هناك على ظهر المريخ، وجاء فعلاً خسيساً، لا يمكن تصور فظاعته وخسته.. وبعد
أن يقترفَ جنايتَه تلك، يكرُّ عائداً مرة أخرى إلى كوكب الأرض. وإلى مجتمعاتنا هذه نفسها.. ثم يروح ينظر إلى المريخ بعين مسترابة؛ هامساً لنفسه:
ــ هل يعلم أحدٌ ماذا اجترحتُ هنالك من موبقات؟
فإذا اطمأنّ إلى أنه لا أحدٌ هنا قد علم شيئاً مما جناه أو اقترف، سوف يقول في نفسه:
ــ لست مجبراً على أن أُسدِّدَ للمجتمع جزءاً من حريتي، طالما أنني لم اقبض منه حصتي من بضاعة الأمان المتفق عليها، والتي تعودتها واشترطتها.
وحين واتتني فرصة أن أسألَه متظاهراً بفهم ما يقول:
ـ هذا كلام مدهش.. من قال هذا القول؟
أجاب البرنس:
ـ كل العلماء الباحثين والفلاسفة أصحاب الرأي.. وأنا..
كان من عادة البرنس أن يرددَ عند منتهى كل لازمة: “هذا ما يقوله كل الباحثون والفلاسفة أصحاب الرأي.. وأنا.”. ثم أضاف بعد هنيهة صمت وتأمل:
ــ هناك الحقيقة .. وهناك الوهمُ الذي ظننتَ أنه الحقيقة.. وأنت لابثٌ بينهما كما يسكن المزاح في تلافيفِ الجدال المتحمس..
وقال أيضاً:
ــ افترض يا محمود أن أهلَ الأرض جميعاً قد رحلوا إلى المريخ. تسللوا لِواذاً ثم رجعوا إلى كوكبهم. وأنهم ارتكبوا هنالك من الفظاعات والدناءات ما يشيب لهولِهِ الولدان، وبعد ذلك عادوا إلى الأرض ثانية، دون أن يشعر أحدٌ من بينهم بتسللهم.. افترض ذلك، ثم أجبني: ماذا كان سيحدث؟
قلت:
ــ لا أدري.. ماذا سوف يحدث برأيك؟
هز رأسه باستخفاف ويأس مني، قبل أن يمضي، وهو يقول:
ــ أنت لا حدود لك .. وأنا يحدُني من الشمال، الشمال والجنوب.. ويحدُني من الشرق، الشرق والغرب. وتَحدُني من أية جهةٍ من الجهات، كل الجهات.
كان البرنس يتأبط ثلاثة كتب. الأول مكتوب على غلافه عنوان: (حكايات لن يصدِّقَها أحد) والثاني مكتوب على غلافه عنوان: (حكايات يصدقها كل أحد). والثالث مكتوب على غلافه عنوان: (قبل البداية وبعد النهاية). وتحت العنوان، عنوان آخر كتب بخط أصغر: (حين نُفِخَ في الصُّور). قال البرنس وهو يمد يده بالكتب الثلاثة:
ــ سأهديك أحد هذه الكتب.
فسألته على الفور:
ــ هل تحتوي على رسوم جميلة وصور؟
ــ الثالث من بينهم فقط لا يحتوي على أية رسومات وصور.
وأشار إلى الكتاب الذي كتب على غلافه المهترئ: (حين نُفِخَ في الصُّور). قلت بحماس:
ــ أريد هذا.
وأشرتُ بإصبعي نحو الكتاب الثالث. فقال البرنس:
ــ لكنني أخبرتُك أنه لا يحتوي على رسوم وصور.
ــ لهذا السبب اخترته.. حتى يعلم أبي وأمي وأختي أنني صرت كبيراً.. أقرأ في كتب فوق ما يهوى الأطفال ويستمتعون بتصفحه.. كالرجال الكبار مثلك..
ابتسم البرنس بين سخرية كظيمة وإعجاب ظاهر، وقدَّمه لي بحفاوة مبالغة:
ــ إذن هو لك منذ الآن..
وصلت بيتنا وخلوتُ إلى نفسي، فتحت الكتاب بلهفة، يلتهمني شغفٌ باطنٌ أنني سوف أعثر فيه على ما لست أدري من كنوز.
فكان ما طالعني به من أعجب العجب:
***
{…. الأخبار عن تاريخ القرن الخامس، منها ما أمكن تجميعه من نتف عابرة عن حياة قتيبة الذي رحل إلى الله مع العاصفة الثلجية ذات يوم. بعض هذه الأخبار فيها زيادة ونقصان، وبعضها الآخر مرسلٌ أو منقطعٌ، لا تثبته الرواية بنفي أو وجوب صحة. ولطالما نظر الناس على الدوام إلى الحكايات نظرتهم إلى أكاذيب مموهة على الأغلب.. حكايات افتَتَن بها الصغار، وعشقها الكبار. ورطبَّت الإنسانية شفاهُها بسردها قرناً تلو قرن. وحتى اليوم لا يعلم أحدٌ مبعث افتتاننا بذلك المجهول والغامض، وذلك السريّ الخبيء الذي تطويه الحكايا بين سطورها وحروفها.
قد نجد في كتاب الإنباء (لابن العمراني) لمعاً من أخبار قتيبة، الذي عاش في خراسان، بداية ممالك الغزنويين والسلاجقة والبويهيين. أما أهم المصادر، فهي بعض روايات المحدِّث، الراوية أبي بكر النقاش، (الذي يذكر أحياناً باسم مختصر: “النقاش”، وأحياناً بـ “ابن النقاش”). وهو عموماً، وإن يكن من المتروكين والضعفاء، (كما جاء ذكره بحسب رأيٍ لطلحة بن محمد بن جعفر)، إلا أنه ـ أي النقاش ـ يبدو بأنه لم يكن يروي بروايته، وإنما كان ينقل عن أحد الكُتّاب الهنود، من مخطوط تمزقت صفحاته الأولى، ولا يعرف عنوان الكتاب الأصلي ولا اسم المؤلف. ولكن ذكرتْ بعض المصادر المتأخرة بأن المؤلف الهندي هو متصوف معروف يدعى “الدهلوي الكبير”. تمييزاً له عن مؤلف
آخر يحمل الاسم نفسه، ويسمى “الدهلوي الصغير”.
في تلك الرحلة التي قطعها ابن النقاش، (والذي يذكره العلماء أحيانا كرحالة متجول، سافر وتنقل كثيراً، شرقاً وغرباً، وسمع الروايات في الكوفة والبصرة ومكة ومصر والجزيرة والموصل والجبال وما وراء النهر)، في تلك الرحلة كان قد وفد إلى غزنة متجهاً إلى خوارزم ـ تلك الرحلة التي تمّ تأريخها في عدد من مصادر تاريخ خراسان في بدايات القرن الخامس ـ فاستقبله السلطان الأشهر والأعدل: محمود بن سبكتكين الغزنوي، المعروف بحبه للأدب والعلم، والذي كان بدوره قد وفد إلى غزنة من خوارزم، بعد أن ضمها إلى سلطانه.
وورد في سيرة السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي، أنه أقام الخطبة للخليفة العباسي القادر بالله، فأرسل له الخليفة خلعة فاخرة جداً، لم يُرسِلْ مثلَها قطُّ خليفةٌ إلى أي سلطان من قبل، وخلع عليه الألقاب الكثيرة، مثل: يمين الدولة، وأمين الملة، وناصر الحق، ونظام الدين، وكهف الدولة. وبعد فترة من الزمن، سيضيف محمود بن سبكتكين إلى نفسه لقب: “قاهر الهند ومحطم الصنم الأكبر”. (وهي إشارة إلى تحطيم صنم الإله شيفا بعد دخوله مدينة سومنات).
وحينما قرر السلطان المسير نحو كشمير طلب منه ابن النقاش أن يرافقه؛ مستشاراً
له، وصاحبَ رأي وعقل سديد، ومؤرخاً يصف حال الجيش الغزنوي، وعدته وعتاده، وأحوال جنده ومقاتليه. ولطالما أسهب ذلك العالم الراوي، في وصف حال الجيش نفسه؛ عدته وعديده، وراياته ومراتبه وتنظيمه.. ابتداءً من قائده، القائد العام الذي يلقب بــ “حاجب برزك”، وانتهاءً بقوات العبيد والغلمان والخدم، تحت قيادة ذلك المقاتل الملقب بـ” سالار غلمان”.. حتى أرذل طبقات الجنود من المتطوعين، في ما يشبه الوظائف العسكرية، ذكرهم ابن النقاش، لم يستثنِ منهم أحداً.
التفاصيل اليومية ووصف المعابر والجبال، جميعها أطنب في ذكرها ابنُ النقاش وأفاض. أسماء السهول وطبيعة الحيوان. نمط الحياة القاسية للسكان في تلك المعابر الجحيمية. يستشهد على سبيل المثال، بتلك الصورة التي عاينها بنفسه رأيَ العين، واصفاً جيش السلطان محمود الغزنوي وهو يجتاز عبوراً، بين سهلٍ طينيٍ لاحبِ الامتداد والسعة، قائلاً:
ــ لو صعد رجلٌ مكاناً شاهقاً، ورأى السهلَ المقَعَّرَ بين متاريس الجبال، بعد خروجهم منه، لظنَّ بأنه يرى قعر جهنم المتفحم، وعليه آثار الجثث المعذبة المسحوبة فوقه.
ويسهب في وصف جنود المراتب المتدنية وهو يتجول بينهم، قائلاً: “أجساد متقرحة مُشرَّمة ـ هكذا يصف جند المراتب الأدنى، الذين جُعلوا في الخلف ويمنة ويسرة ـ
تعلوها سمرة كالحة. إذا تعرى أحدهم في قفرٍ، حسبته صخرة أو ساق شجرة، أو وتد في الأرض. أقوامٌ من أعراق ومسالك مختلفة. يتحدثون بلغات لم أسمعها من قبل. لا شيء يجمعهم إلا السيف. أمرُّ بأحدهم فيرمقني شزراً، وأكاد أقسم أنه يشتهي أن يجزَّ رقبتي”. وهي بنفس العبارات والوصف الذي جاء في مؤلف المتصوف الهندي “الدهلوي الكبير”.
إذن فالبداية تبدأ منذ أن سار السلطان الأعظم محمود بن سبكتكين الغزنوي بجيشه إلى نيسابور، والتي كان “بكتوزون” بداخلها. وحينما علم “بكتوزون” بسير محمودٍ إليه فرّ هارباً من نيسابور، فاستولى عليها السلطان محمود. وحين علم المنصور باستيلاء محمود على نيسابور سار إليها، وقد علم السلطان محمود بذلك، فسار هو الآخر إلى مرو الروذ، ثم أخذ ينتظر ما الذي سيفعله المنصور.
التقى المنصور و”بكتوزون” معاً لمواجهة السلطان محمود، واتجهوا نحو مرو لمواجهة السلطان، ثمَّ دخلوا في المعركة الحاسمة مع جيشه في جمادى الآخرة.
في النهاية هُزِم “بكتوزون” والمنصور، وانسحبا….}.
***
فجأة بدا لي في “خطأٍ في صيغة الصحّ “… وألهَمَنِي:
خَلَقتُ الإنسانَ لأنهُ نورُ رسالتي في هذا الكون. ولأنه جدوى هذا العالمِ ومعناه. ولأنني
أردتُه التعبيرَ الأفصحَ عن عِظَمِ كينونتي، وفحوى رسالتي ومرآةُ عَظَمَتي.
أردتُهُ نُوراً أُباهي بهِ فجعلوهُ ظلاماً. وجَعَلُوهُ آلةً صماءَ. وجعلوه شيئاً كريهاً لامعنى له ولا مغزى. أردتُه للحياةِ وأرادوهُ للقتل. أردتُه للبناء فأرادوهُ للهدم. أردتُه لي فأرادُوه للعدم.
الأبيض فيهم يقتل الأسود. والأسود يقتل الأحمر والأصفر. الـفتـكُ ببعضهم تسلية. واستئصال الشأفة تَحلية. أمراضٌ فتاكة تقتلُهُم جميعاً. بحارٌ لُجِّيةٌ تُغرقُهم جميعاً. قصفُ طيرانٍ من فوقهم. وجفافُ زرعٍ وضرعٍ وجوعٌ وفيضاناتٌ من تحتهم. أهلُ مكرِهِم وضُرِهم أشهى وأحبُّ إليهم من أهلِ خَيرهِم. الحوادث فيهم عادة. ومصائُـبهم استفادة. والكوارث ديدنٌ وغاية.
لو كانتِ الظلالُ أجساداً لأطلقتُم عليها النار. ولو كانت الحجارةُ ورمالُ الصحاري خبزاً لأوطنتم الفقراء في قواربَ وسطَ البحار. ولو كان لليرابيعِ والجرذان حَسباً وجاهاً يُـفْتَخَرُ به، لوصلتم حِبالَ أنسابكم إليها، وادعيتم قرابتها؛ أبوةً وبُنوةً.
تَبَّ تَباباً من احتاجَ إلى التفهيمِ، ولم يتعاظمِ الخيرُ في نفسه، ويتصاغرِ الشرُ في قلبه. فلا تسقِ حتى يُصْدِرَ الرِّعاءُ. فثمة خطأٌ يُصاغُ لغوياً في صياغةِ الصحّ، وثمة صحٌّ يُصاغُ لُغوياً في صياغةِ الخطأ.
وألهَمَنِي:
البحثُ عن مآلاتِ المعنى يُورثُ آلاماً غيرَ محسوسٍ بها. فالإخفاقُ نجاحُ الفاشلين، والنجاحُ إخفاقُ الناجحين. فقد خَلقتُ في فلَكِ الكونِ الدوارِ ـ كي تدورَ مع الزمن الدوار ـ إنسانيةٌ تبحث عن ضميرٍ، وضميرٌ يبحث عن إنسانية.