سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل الثامن عشر من رواية (حـيـنَ نُـشفِـخَ فـي الـصُّور)
ــ لنأمل.. ولكن لنكن واقعيين.
ــ الأمل والواقعية خطان متوازيان، لا يلتقيان..
ــ الناس هنا لا يحترفون إلا التشكي من ظروفهم التي لا تتغير أبداً.
ــ حتى الآلهة الوثنية كانت تستجيب أحياناً لعابديها البدائيين. أو أن حوائجهم كانت تُقضى بصورة طبيعية. فينسبون فضل تحققها للحجارة والأشجار والحيوانات.
ــ نسأل الله العلي القدير، أن يسمحَ لنا ببعض السرقات الصغيرة، وغير المؤذية، في هذه البأساء والسنين الشهباء… أو على الأقل أن يغضَّ الطرفَ عنا.
ــ العدالةُ ليس لها بابٌ تنفذُ منه إليها، فكن أنت بابَها.
ــ العدالة سقف العوالم كلها، وليس وراء سقفها شيء.
ــ العدل يحتاج إلى العدالة، والعدالة لا تحتاج إلى شيء.
ــ ثوب العدالة قَيّومٌ على رحلتي الشتاء والصيف، فلا تخلعْه في شتاءٍ ولا في صيف.
ــ العدالة تُثمر ولا تُسْتَثْمَر.
ــ للعدالة بحرٌ إذا مخرتْ عُبَابَه السفنُ تاهت في عُبابِهِ.. إلا سفينةً قطَّرَها العقلُ في مِرجلِهِ تقطيراً، وزانتها الحكمةُ بأبهى حِليتِها..
ــ إذا نظرتَ في مرآة العدالة، أخبرَتْكَ أن الجوع أكبرُ مساحات الظلم.
***
{…. كانت المغارة التي يقطنها الشيخ ياكتين الشيرازي واسعة رحبة. وتنتهي من إحدى زاويتيها العميقتين بدهليز يفضي إلى حجرات أخرى. وقد أضيئت بالشموع والزيت من كل جانب. كان قتيبة يخطط لأن يروي للشيخ قصته خلال الثلاثة أيام الأولى من
لقائهما، ودون توقف. لكنه تفاجأ حين قال له الشيخ مقاطعاً بأنه لا يريد أن يعرف مزيداً مما علم. وأكثر ما كان يثير قلق قتيبة هو أن يجيبه الشيخ على سؤاله الذي سكن صدره منذ سنوات: هل مات الشيخ ياكتين حقاً، في الأيام الخوالي، ثم عاد إلى الحياة ثانية؟
أجاب الشيخ بلا اكتراثٍ بالسؤال:
ــ أجل.
لبثا صامتين بعض الوقت، حتى قطعه الشيخ ياكتين قائلاً:
ــ العلاقات والروابط في هذا الكون كلها لها مدة صلاحية وتاريخ انتهاء .. إلا ما أنا وأنت عليه .
ــ كيف ذلك؟ أريد أن اسمع منك كل شيء.
ــ هذه حكاية طويلة.
ــ وإن تكن.. لديّ حسٌّ باطني بأنني سأموت شغفاً من فضولي لأن أسمع الأمر من
فمك.
ــ بائقة البوائق أن تعبث بإسرارك إليّ وإسراري إليك . ولكن ما دام الأمر كذلك، إذن فلتعلم كيف جرت الأمور: كنت غلاماً أخدم عند سيدي سيروان الصابئ. كنا نعمل معاً في مجاهل غابة مكتظة بالأخشاب. نقطع الشجر ونُقَلِّمُه ونحزمه حزماً حسب أقيسته وأنواعه. جرت العادة أن نقضي الفصلين الدافئين من فصول السنة، الربيع والصيف، في عمل الخشب. ونرتاح بقية العام في قرية سيدي سيروان الصابئ طوال فترة الثلوج والبرد القارس. حيث يتفرغ سيدي سيروان للقاء التجار وبازار البيع والشراء، واستيفاء الديون القديمة وتقييد الديون الجديدة. والتحضير لأشهر قبل موسم الدفء والعمل. ولقد اعتدت منذ نعومة أظفاري على حمل عبء البيت وشؤونه كلها، ومشقات العمل وصعوباته، وخدمة سيدي في كل شؤونه الخاصة والعامة.
كانت حياتنا قانعة والأنفسُ راضية، ولم يكن لنا مما ينغص علينا العيش مهما دق أو كبر. لقد عشنا سنوات في رضى وتفاهم لم ينغصه أو يعكره هم من هموم الحياة، ولا بادرة من بوادر الشقاء. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي عثرت فيه على ذلك الكنز الكبير من الذهب والمجوهرات..
كان حادث اكتشاف صندوق بحجم تابوت الموتى، مليء بالذهب العتيق ونوادر
الجواهر والقطع الأثرية الثمينة، حادثة نادرة لا يقع مثلها خلال عشرات، بل مئات السنين. ولا تكثر مثل هذه الحوادث إلا في الخرافات والنوادر الشعبية السائرة وحكايات الأطفال. ولم أزل حتى يومي هذا أحتفظ بصدمة الانطباعات الأولى التي خلفتها في نفسي تلك المفاجأة الغاشية. كان كشفاً عظيماً وخطيراً، أبعدَ من أن يطوي النسيان ما تبقى له من ذكرى، بقية عمري، وما دامت تلك الغابة.
هرولتُ مسرعاً إلى سيدي سيروان الصابئ، وأعلمته بما انكشف عليَّ فجأة من باطن الأرض، فأقبل وهو غير مصدق ما رويت وما رأيت. نظر بعينيه، فهاله المنظر. صندوق من خشب الأبنوس العتيق، صندوق لا يقدر على حمله إلا عدة رجال أقوياء، حوى من الكنوز مالم يحزه أعظم الملوك في عصرنا. وحين استفاق من ذهوله، تبدى عليه الارتباك والاضطراب. ما الذي يجب علينا عمله؟ كيف سننقل كل هذه الثروة؟ وكيف سنبيعها؟ بل كيف نقتسم مقدارها فيما بيننا؟ لا حظ أن الكنز هو ملكي الطبيعي، فأنا مكتشفه، وكان في وسعي أن أخفي الأمر عن سيدي وأن أحتقبه وحدي، وأن أفر به إلى حيث أشاء..
أخيراً هدأ سيدي قليلاً، وطابت نفسه بعض الشيء. واستقر قراره على أن نقتسم الكنز مناصفة بالتساوي فيما بيننا. وفوق ذلك لا يطيب الأمرُ أن أظل خادماً أخدمه
بعد. ومن الخير لكلينا أن ينصرف كلٌّ منا إلى حيث يود العيش، ويقرر أين يبتغي السكنى بعد أن نفترق برضى وتفاهم تام. فلم أزد على القول وكلي رضى نفس وموافقة:
ــ لقد رضيت.. ولك القرار في أن تُصرّف الأمور برجاحة عقلك، كما تراها حكمتك ويعدلها ضميرك….}
***
بدا لي في “العقل”..
وألهَمَني:
الكَذِبُ حديقةٌ جميلةٌ. أشجارُها إرجاءُ اللقاءِ بي في مَوعدهِ. فلا تسمعْ غيرَ صوتي. إنكَ إنْ سمعتَ أجبتَ. أو أوشكتَ أنْ تُجيبَ. ولا تَمَلَّ قُربي في البُعدِ، ولا بُعدي في القربِ. فإنْ مَللتَ اتخذتَ المَلَلَ إلهاً لك. فأسلمْتُكَ لِما اتخذتَ من دوني.
وألهَمَني:
أولُ خلقٍ خلقْتُهُ في هذا الكون هو الفرْقُ. حيث فـرَّقتُ بيني وبينَ كلِ شيءٍ. وثاني خلقٍ خلقْتُهُ في هذا الكون هو إلغاءُ الفرق. فمحوتُ ما بيني وبين أحبتي. ولو تحولَ الكونُ كلُّه إلى عقلٍ، لاخترع الإنسانُ من حماقاتِهِ كَوناً بديلاً عنهُ. وَ واعجباً للإنسانية، كلما ازدادتْ علماً، ازدادتْ حقارةً ولؤماً.
وألهَمَني:
للجوعِ قامةٌ وقبضةٌ. وللغضبِ قاماتٌ وقبضاتٌ. وما أُخِذ عنوةً بسيف القلب، لا يُسترد إلا عنوةً بسيف القلب أيضاً.
وألهمني :
قلْ لقطار الغثيان: توقفْ قليلاً بي في المحطةِ القادمة .. لكي أتقيأ ..
ثم عاودِ السيرَ بي نحو محطاتِـك المجهولة.. فإن رأيتَ نفسَك دون مرآةٍ أو مُعَرّفٍ.. ورأتْكَ نفسُكَ دون مرآةٍ أو مُعَرِّفٍ.. تسلَلَ كُلُّ قولٍ من نَفْسِكَ لِوَاذاً.. وحوصرَ الكلامُ في سجنِ النفسِ بلا أحرفٍ ولا لغة..
وألهمني:
تَرْكُكَ كلَّ شيءٍ أمامي وراءَ ظهرِك.. يجعلُ ظهرَكَ أماماً، ويتركُ كلَّ شيءٍ لظهرِك ظهيراً.
وألهمني:
لا تضقْ ذَرعاً بي.. بل ضِقْ ذرعاً بكَ.. وضِقْ ذَرعاً بضِيقِكَ ذَرعاً بي.. فأنْ تنخدعْ في عَماءِ غاشياتي، خيرٌ لك من أن تَسْتَبْصِرَ في جلاءِ غاشياتِكَ.
وألهمني:
حين تستوي كلُّ الأضداد، تقفُ اللغةُ خرساء، وتنتبه الحيرة من نومها العميق، ويتمطى القلق حين تُنتَهَبُ منه جدوى الأشياء ..
وألهمني :
نسيتَ.. ثم نسيتَ بأنك نسيت.. فخرجتَ من كهف الذاكرة إلى فناء النسيان.. ظناً بأن النسيانَ لا يُلزمُ الناسيَ ولا الذاكرَ.. ناسياً بأن النسيانَ لا يُخرجك من الموقف، لأنه السُّلَّمُ إليه.. وأن الذاكرة لا تُدخلُك في الموقف.. لأنها ليست من حِبائِهِ ومستلزماته..