سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل الحادي عشر من رواية (حـيـنَ نُـفِـخَ فـي الـصُّور)
وسمعتهم ذات يوم يتحدثون عن بقعة نائية في الحي، قيل أن من وصلها واستطاع دخولها، لم يخالطْهُ حزنٌ ولا كدرٌ إلى أبد الدهر. وعاش الحياة في فرحٍ وسرور، مُبرَّأً من الأمراض والأحزان والجنون، ونال المحبة والحبور. فاختلستُ فرصة انشغالهم في البيت، وقررتُ أن أمضيَ نحو المكان، لا أنثني ولا أتراجع ولا أبرحُ حتى أدخل تلك البقعة.
وبعد أن سرتُ ساعةً من الزمن، تعب عودي، وكلَّت قدماي عن متابعة السير، ونسيت نسياناً تاماً؛ أين أنا وإلى أين أمضي.! فأخذت أتفكر وأجتهد، فلم أظفر بشيء.
وبعد طول حيرة ونسيان، قررتُ العودة ثانية إلى بيتنا، وقفلتُ راجعاً، وكلِّي حنقٌ وغيظٌ من آفة النسيان التي اعترتني فجأة.
وحين أسررتُ للشيخ عبد الواحد بما حصل لي، ورويتُ له الحادثة، لم يزدْ على أن قال بفتور، ودون اكتراث بخيبتي:
ــ التراهقُ في الآمال يُفضي إلى التراهق في الأفعال.
***
{…. لم يفتأ بعض غلمان الماخور وخدمه أن تَدَّخلوا على عجل. هاجمه بعضهم، وتعلقوا بجسده الخرافي يريدون تخليص مياسة منه. تبعهم وكـرَّ وراءهم كل من شهد الحادث، ثمَّ راحوا جميعاً يحاولون تخليص مياسة من بين يديه. ركب بعضهم فوق ظهره، وعضه أحدهم من أكثر من بقعة في جسمه، وهو يحاول قضم لحمه. وكان ثمة من سعى لضربه بما وسعه من أثاث الغرفة من حوله.
اجتمع كل من في الماخور حتى أسقطوا البلخي على ظهره. وانفصلت قبضته القابضة على عنقها أخيراً، وهو يحاول خنقها، وبدأت قواه تتلاشى شيئاً فشيئاً. فسقط وسقطوا معه، محاولين بكل ما أوتوا من جهد تكتيفه على الأرض وربطه بالحبال. كان قتيبة لابثاً عند الباب يراقب الجميع دون أن يتدخل. ولقد روت مياسة فيما بعد، كيف صرخت في وجهه موبخة مستنكرة:
ــ أيها الولد الدميم الوجه، لمَ لا تشارك في نجدتي كالآخرين، وتقف كعمود الخشب قرب الجدار..؟
ثم تستأنف كلما تذكرته عقب ما تلا ذلك من سنوات بعدئذٍ:
ــ لقد آويته ورحمته من التشرد والجوع.. كان يُذَكِّرني بكلبٍ كنتُ أُربيه..
تتذكر ذلك، ثم تزفر بأسفٍ كظيم.
فيما بعد، صار قتيبة ينام عندها في مخدعها، وبعيداً عن فراشها، حينما تكون لوحدها. كانت تحدثه قبل النوم مستفيضةً في معارف جنسية لم يسمع بها من قبل، ولا يعلم أحدٌ أين تعلمتها. بينا هو يستمع إليها وهي تروي ـ كمن يتحدث إلى نفسه ـ طرفاً من الثقافة الجنسية التي لم يسمع بها طيلة حياته. فكان يصغي مكرهاً وهو يتظاهر بالنوم بعيداً عنها، حيث يرقد محشوراً في إحدى الزوايا، بعيداً عن سريرها. وهي تواصل القول:
ــ في روما القديمة، كانت النساء ممن فقدن عذريتهن قبل الزواج، يعتمدن أكثر الطرائق غرابة من أجل إيهام أزواجهنَّ بأنهن ما زلن عذارى، فمن أجل محاكاة فضّ غشاء البكارة لديهن، كانت بعض النساء تضع علقة تحت الشفتين الخارجيتين للمهبل، في الليلة التي تسبق ليلة الزفاف، فيؤدي التورم الذي تخلفه العلقة إلى النزيف خلال الممارسة الجنسية، مما يترك انطباعاً لدى الأزواج بأنهن عذارى.
ثم تصمت قليلاً، وتواصل الحديث إلى نفسها، بينما يكون قتيبة قد أخذته سِنةٌ من نوم وغيبوبة من رقاد:
ــ وفي مصر القديمة كانوا يستعملون عقاراً خاصاً بالنساء لمنع الحمل. وهو خلائط من روث التماسيح ومواد أخرى تحشوها النساء في المهابل ليؤدي وظيفة مانع حمل طبيعي.
تجعله ينام غالباً على الأرض بجانب سريرها. ولقد ظل كذلك حيناً من الزمن حتى ترك الماخور. وكان أول ظهور الشيخ ياكتين الشيرازي لقتيبة في منام. بل في منامه الأول، حيث رآه يبتسم في وجهه، ولم يكن ثمة ملامح إنسان يتذكرها المرء حين يستيقظ.
وبعد ذلك في سجن خراسان الكبير، رآه ثانية أثناء النوم، فكان منظره باديَ الوضوح هذه المرة. وبعد مجلس تخلله صمت طويل، قال الشيخ ياكتين لقتيبة أثناء النوم:
ــ إذا جعلتني آخرَ آمالك، انعقدتْ اعتراضاتي عليك بميثاقِ انحطامٍ، وعهدِ زوال
فلم يجب قتيبة إلا بالقول:
ــ يصعب عليَّ أن أتعرفك وسط هذا العماء المحيط بي من كل الجهات..!
أجاب الشيخ:
ــ مَنْ تعرّفَ عليّ بالوراثة عن أمه وأبيه، تعرفتُ عليه في الأوراق الرسمية عند موظفي تثبيت صكوك الولادات والوفيات. ومن تعرفني بالمال، تعرفت عليه عند الصرافين. ومن تعرفني بالجاه، تعرفت عليه في مجالس القوم.
سأله قتيبة مرتاعاً:
ــ هل أنت الله؟
ــ هذا سؤال لا جواب له.
ـ هل أنت يهودي؟
ـ لست يهودياً.. أنا بضعة قليلة من خالق الكون وبارئه.. وذرة صغيرة من ذرات قدرته التي قَدَّرت الأقدار وهَدَت الخليقة إلى هدي اليهودية والمسيحية والإسلام..
وصحا قتيبة من النوم….}
***
وبدا لي في “ما لا يُقال”..
وألهَمَنِي:
ما لا يُقالُ أوقيانوسٌ لُجِّيٌّ هائلُ الاتساع. لا تتسعُ له حروف اللغات. يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ. بينما الذي يُقالُ نقطةٌ فيه. فإذا تعجبتَ مما لا يُقالُ، كيف لا يتحدُ بالمعرفة، ويولد في العلوم، فتيقنْ بأن أسبابَه أكبرُ من أسباب المعرفة، وآياتِهِ أوسعُ من آيات العلم.. إذ كلُّ مخلوقٍ آدميٍ ينطِق بلغتين: لغةِ ما يقال، ولغة ما لا يقال. ونطقُهُ بما لا يقال أبلغُ من نطقه بما يقال.
وألهمني:
متى ما حسبتَ أنك نجمٌ مشعٌ في قيوميتي، فافرحْ للظلام من حولك، فإنكَ لا تُعرف إلا به. وزامن أزمانك وأوطانك بي ولا تزامنِّي بأزمانك وأوطانك.
وألهمني:
استمسك بكبرياء “مالا يقال” وعنجهِيّتهِ، استمساكك بعروة وثقى، فإنّ “ما لا يقال” هو بَوحُ الله الخفي للإنسان ووحيه على الأرض.. فالـ “ما لا يقال” عُريُ الروح أمام مراياها الجاذبة، فإذا تعرّتِ الروحُ فحَيَّهَلا بعُريِها. فإنه خيرٌ من كِسوةِ الجسد. وأوفى عهداً وصدقاً وحِباءً لي . فإنْ تعرتِ الروحُ في الـ “مالا يقال” دعوتُها لمسامرتي..
وألهَمَني:
ما لا يقال رسالة. رسلُها صامتون دائماً. ورساليّة ما لا يقال، تستنطق جوانية ما يقال، ولا تنطق بها. فما لا يقال كلام. و ما يقال نطقٌ وقولٌ.