سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل الثالث عشر من رواية : حـيـنَ نُـفِـخَ فـي الـصُّور
تلك الأزمنة المندثرة، والأحياء التي فقدت ذاكرتها منذ ردح بعيد.. ألا تزال تذكرها؟
تلك المدنُ، ألا تزال تذكرك؟ لقد سرت ومضت راحلة.. كسارية وهمٍ عابرة ما بين دُلوكِ شمس النهار، إلى غسق عتمة الليل. ومهما رشحت أو طفحت، فإن اكتشافها في الذاكرة دون إشارة، أولى من كشف دخان ذكرياتها بإشارة..
لقد كانت ذكرياتُ تلك الحارات، نكاياتٍ بجهالات القلوب.
أمام دارهم، طالما وقفتُ أتأملُ شناشيلَها، التي تكاد تبوح بأسرار الدار للسابلة والمارَّين. وذات مرة، لمحتني أمي وأنا أستزيدُ من النظر إلى شباك بيتهم الذي يستثير فضولي، فزادت من ضغطها على كفي، وهي تُسرع ممسكةً بيدي، ونحن نعبر الطريق. هاتفةً بوجل لا تفسير له:
ــ هذه عائلة سيئة السمعة يا صغيري محمود.. حتى إمعان النظرة في شباك بيتهم، فيه معصية لله.
واستبدَّ بي الفضولُ أكثر، فسمعتُ الأمُّ تصرخ بوحشية، مخاطبةً ابنتها التي تكبرني بحوالي سبع سنوات:
ــ يا صباح…
كانت صباح هي صغرى بنات العائلة السيئة السمعة. وكنت أسمع باسمها لأول مرة. وذات عصر من الأعصر، فوجئت بصباح وهي تدنو مني، حتى أوشكت أن تمسكَ بتلابيبي، وفكرتُ أول الأمر، أن أُوَلِّي من أمامها هارباً، وقد آنستُ شيئاً يشبه رائحة الشر الذي لا
يُعرَفُ كُنْهُهُ. فقالت متبسمة، وقد نضت شفتيها عن أسنان لؤلؤية بلون الحليب:
ــ ما الذي تقبض عليه بكفك، وتعتصره بكل هذا الحرص والخوف؟
قلت، وقد بهتتني المفاجأة:
ــ إنها ربع ليرة؟
ــ أهي مصروفك كل يوم.؟
فحرَّكتُ رأسي مجاملاً وموافقاً. وقد زالت من نفسي بعضُ الرهبة، وإن ظل قلبي يخفق من القلق والاضطراب. فدنت من أذني هامسة همساً جاذباً يحرك الفضول:
ــ أتريد أن أريك شيئاً جميلاً؟ لم تقع عينُك عليه مذ خُلقتَ على وجه هذه الدنيا؟
فاستسلمتُ لها مزيداً وقد أُسقطَ في يدي، وأنا أُتبِعُ موافقتي على كل ما تبتغيه بهزاتِ رأسي المتطامنة، وأكاد أستشعر أنني أتكبكبُ في جُبٍّ سحيق الغور. فسمعتها تهمس:
ــ هلمَّ بنا إلى مدخل بيتنا.
ولم أتذكر إلا أنها جرفتني وهي قابضةٌ بكفها على كفي، بعد أن صارت الربع ليرة في قبضتها، وانتقلتْ إلى كفها بخفة دون أن أشعر. وهنالك رأيتُها في فراغ المدخل، وقد شمرت عن ثوبها، حتى قاربت أطرافُ ثوبها قريباً من منتصف بطنها. وضحكت بفرح وجذلٍ ضحكة المنتصر، ثم حثَّتني على أن أسرِعَ في مغادرة المكان، قبل أن يرانا أحد. فقلت وأنا أكاد أنشج بصوت ملؤه الشحوب وحسرة الفقد:
ــ أريد ربع ليرتي.
فزجرتني بلوم موبخة:
ــ اذهب بسرعة.. انقلع لا يراك أحد.. لقد أريتُكَ شيئاً أثمنَ من ربع ليرة، ويساوي أكثر منها..
وحين أبصرتني أمي، وأنا مخطوف اللون، أغالبُ الخيبة والحسرة، ولا أقدر على البكاء، قالت بطريقتها المحقِقَة:
ــ ماذا جرى لك؟ أضعت الربع ليرة كما أحسب؟
فهززتُ رأسي معترفاً أنني لم أعدْ أملكُها بعدُ. فقالت موبخة كعادتها في مثل هذه الأحوال:
ــ مع أنني حذرتك يا محمود أكثر من مرة، أن لا تضع نقوداً في جيب بنطالك المثقوب..!
***
{…. عاش فترة وحيداً في ظلمة تلك البيوت. لا تصدر منه حركة واحدة. وروى عنه رجلٌ مشتهرٌ بالفسق، فيما بعد، كيف جاء بفتى أمرد ليختلي به في بيت من بيوت الغوري التي لازالت تبنى، وبينما كانا يتهتكان ويخلعان ملابسهما، أحسا بجسد ينام في إحدى الزوايا في الظلام. وحينما التفتا رآهما قتيبة، فراح يحدق فيهما. قال الرجل الفاسق:
ــ ظننته جنياً فقفزت فزعاً إلى الوراء، وجلسنا برهة يتطلع أحدنا في عين الآخر.. كانت عيناه تلمعان بوجه جامد لا ملامح فيه، فظن الرجل لأول وهلة بأنه ميت، غير أنَّ قتيبة قال أخيراً يخاطب الرجل وهو يهز كتفيه:
ــ لا شأن لي بكما.. اعتبراني غير موجود..
أضاف الرجل:
ــ لكنني لبست ثيابي وأخذت الصبي وخرجنا لا نلوي على شيء.. والله لازلتُ أظنه
حتى اليوم جنياً من الجن.. لعنه الله..
في بستان عند حافة رستاق قرب الطابران خارج طوس، يملكه ثلاثة إخوة غامضين.
مشبوهين. لا يعرفهم أحد، ولا يُعرف من أين قدموا، ولا ماذا يعملون. يسكنون في
بيت ناء معتزل على طرف الرستاق، اشتروه خرابة وأعادوا إنشاءه من جديد، ثم استوطنوه في عزلة تامة، قادمين من مكان مجهول.
كانت تُروى عنهم أخبار غريبة جداً، ولا يعرف كيف انتهى قتيبة إليهم. فقد اختفوا فجأة مثلما ظهروا فجأة ذات صيف. فعمل قتادة في حقل القمح لوحده. عاش في حظيرة غنم مع الأغنام، فترة من الزمن، وحينما حلَّ موسم حصاد القمح، انتقل ليعيش في البيت عوضاً عن حظيرة الغنم الصغيرة الفارغة.
وقد تواردت الأخبارُ تزعم بأن الإخوة الثلاثة قد قُتلوا مع جيش سالار الهند (قائد جيوش الغزنويين) أحمد ينالتكين، الذي تمرد على السلطان مسعود بن محمود، فأرسل له جيشاً قضى عليه.
لبث يحرث حقله اليابس ذاك، ويسكن ذلك البيت الكبير لوحده، وبدأ مع الوقت يرث عن الإخوة المختفين أقاويل الغموض الغريبة التي صارت تقال عنه. وقد زاد أسطورة الغرابة هذه حينما اختفى هو أيضاً.. أخذ ما يمكن أخذه ومضى.
وها هو ذا في سجن نيسابور الكبير مرة أخرى. ولكن هذه المرة بتنا على علم واطلاع عن سبب حبسه الأخير.. كان قتيبة ما يفتأ يردد دوماً:
ــ نيسابور لا تحبني. وأريد أن أصل إلى الشيخ ياكتين الشيرازي..
لم يكن قد جاوز السابعة عشرة من عمره. ولقد تعب من التشرد والترحال. ولقد قبض عليه هذه المرة، بعد أن طلب منه نخاس في السوق أن يراقب جواريه الست، ريثما يذهب لقضاء حاجة طارئة مقابل نصف درهم. وحينها قرر استغلال وقت الفراغ وتوديع نيسابور التي لا تحبه بأن يسحب أجمل واحدة منهن، وأن يضاجعها في ركن ما، مقابل نصف الدرهم، (والذي لم يعطه له النخاس ولم يتسلمه بعدئذٍ).
لكن الجارية التي اختارها، رأت نفسها أرفع منزلة من مومس. أو استقلت مبلغ نصف الدرهم مقابل جسدها، أو لعلها ببساطة تقززت من منظره القذر.. فركلته وجلدته وسط السوق. وحينما رجع النخاس وعلم بما حدث، جلده هو أيضاً، وسلمه إلى المحتسب (وهو مسمى الشرطي المدني الذي يراقب الأسواق)..
ــ نيسابور لا تحبني..
أرسله المحتسب إلى السجن. وسلمه للسجان….}
***
بدا لي في “حان الوقت”..
وألهَمَني:
إذا حان الوقتُ فقفْ على ساحلي، و رَ بحري وأمواجي، فإذا رأيتَ كلَّ ما طفا قد غرق، وكلَّ ما قد غرق قد نجا، فاعلمْ أنه أنتَ أنتَ. وإذا حان الوقتُ، فارتقِ من درجة تفاهة ما تعرفُ وما لا تعرفُ، وارقَ درجة ما تعلم وما لا تعلم.
فمتى حان الوقت، فقد نجا كلُّ من خاطر. ومتى حان الوقت، فانزع تفاهة الوقت عنك، وابرز لي منه بروزاً.
وألهمني:
أنت الذي رأيت، فأحضر الميزان، وزِنْ الإخلاص وزنْ النية.. وتبرأ مما علمت، وتبرأ مما لم تعلم.
أنت الذي رأيت، فأفسحْ لقلبك فسحةً ويسّرْ له.. فإن القلب إذا فاض قتل صاحبه.
أنت الذي رأيت، فلا تعبدني بالجوارح، ولا تتقرب إليَّ بالعادات، فإني لا يوصلُ إليّ بصلاة وصوم.
أنت الذي رأيت، فإذا أيقنت بمن سمعت ورأيت، أيقنت بما سمعت ورأيت. ومتى حان الوقت، يصبح الأمام أماماً، والوراء أماماً، واليمين أماماً، والشِمال أماماً.
وألهمني:
أنتَ الذي رأيت.. فألقِ علمك في البر.. وألقِ جهلك في البحر.. واتكل على ما رأيت. واعلم أن أهون العقوبات عقوبة عقلك، وأقسى العقوبات عقوبة قلبك.
وألهَمَنِي:
الوقت رؤيا.. لا رؤية.