سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل السادس عشر من رواية (حـيـنَ نُـفِـخَ فـي الـصُّور)
كنّا نَغُذُّ السيرَ مسرعين، أنا وأبي، كي نصلَ إلى منزل الرجل المحتضر قبل فوات الأوان. سألته:
ــ أهو حقاً على وشك الموت يا أبي؟
فأجاب، وهو يشيح ببصره كارهاً سؤالي:
ــ الأرواح والأبدان جميعها في كف الله وبين أصابعه.. يقلبهما كيفما شاء.
اتخذنا مجلساً وسط محشر من الرجال المودعين، والذين راح بعضُهم يذرف بعض الدموع، بينما ـ وحده ـ كان صوت الشيخ عبد الواحد، يردد كاسراً جلالَ الخشوع والصمت المطبق، مخاطباً المحتضر:
ــ لا تكن ممن قال الله تعالى فيهم: {أَوَ لمَّا أصابتكُم مصيبةٌ قد أصبتم مِثْلَيْها، قلتُم: أنّى هذا؟}.
انتظم القومُ حوله نصف حلقة. بينما صوت الرجل المسجى في الفراش، يجود بأنفاسه الأخيرة هامساً:
ــ أعلم أنكم سوف تجردونني من ملابسي بعد قليل. وتغسلونني وتكفونني.. أعلم أنني سوف أخرج من بيتي بعد هنيهة، خروجَ من لا يطمع بعودة ولا أوبة.. وقد تلقون بأشيائي التي كنت أظنها ثمينة في المزبلة. وقد توزعونها أو تمنحونها لمن يرغب بها. مثل مفاتيح بيتي وحقائبي وملابسي وأحذيتي وثيابي. وأعلمُ أكثر؛ بأن اسمي أول ما سوف يختفي على الألسن، واسمي الجديد سوف يصبح بعد ساعات: “المتوفى” أو “المرحوم” أو “الجثة”.. اسمي الجديد، الجثة، ليس سيئاً كثيراً على أية حال.. ومنذ الغد، لن أكون فلان ابن فلان، بل سوف ينادونني بالمرحوم.. أعلم كل ذلك.
فقاطعه الشيخ عبد الواحد فيما يشبه أن يكونَ زجراً وردعاً له:
ــ إن ثبتَّ فيه، أشرعَ لك أبواباً لم تُفتحْ لأنبياء ولم تتسنَ لأولياء.
فرجع الرجل الذي كان يجود بروحه، يقول:
ــ لم أكن لأتصور أن أحيا طويلاً حتى أدرك عصر التسلية هذا..
في البداية ظننا أن كل هذا الغباء.. كل هذا التوحش هو ضربٌ من المزاح، وفاصل للترفيه.. ونوع من التمثيل المتقن الذي لا غاية له إلا إظهار خافية من خفايا الإبداع والشطارة. والذي سرعان ما سوف يزول سريعاً، ثم نصفق بعدئذٍ للمبدعين بحبور وإعجاب.
في البداية، ظننا أن كل هذا الغير محتمل إنما هو مؤقت.. ولساعة من الزمن، ثم ينتهي كل شيء وينقضي، بعد أن ينفضَّ الجمعُ ويرجع الساهرون من سهراتهم..
في البداية حسبنا الأمر حلماً مزعجاً ليس إلا، وكابوساً عصبي الطبع والمزاج، لا غير.. فإذا بها تمرُّ سنون ودهور.. من كان يظن بأنها ليست محضَّ ساعات انتظار، وإنما هي العمر كله..!؟
وبعد انقضاء أيام وشهور وسنين.. وبعد توالي ليالٍ، وتعاقب دورات، وانقراض جيل، وظهور جيل جديد بلغ الريعانَ والأشدّ، ما زال كل شيء كما كان. لقد صمتنا أخيراً. نظرنا يمنة ويسرة. لم يعد ثمة ما يقال. ولم يعد هنالك مجال. أحاول أن أقنع نفسي بأن الحياة لا ذنب لها. وأن الموت ليس جلفاً ومريباً وغشوماً كما نسيءُ الظنَّ به.
فرجع الشيخ عبد الواحد يقول للرجل، فيما يشبه أن يكون توبيخاً على تقصير حصل:
ــ إبكِ بمقدارِ حزنِكَ لا بمقدار دموعك.. واضحكْ بمقدار فرحك لا بمقدار ابتسامك.
فلم يسمع الرجل ما قال، وانما استأنف يسوق القول:
ــ لقد ابتلينا بمرض جديد، لا أعراض له ولا ترياق.. مرضٍ ينخرنا ما إن نبدأ في السؤال عن معنى الحياة وقيمتها.. ذلك لأن الاثنين، المعنى والقيمة، لا وجود لهما. ما نكون بصدده في هذه الحالة، هو أننا، ببساطة، نبوح بأن لنا مخزوناً غير مشبع من الطاقات المشبعة بالرغبات، مخزوناً يحصل أن يضاف إليه شيء يشبه الاختمار.. فيفضي بنا إلى كل ذلك
الحزن الكبير والكآبة المديدة المتطاولة. وهو لا يعني شيئاً، ولن يكترث له أحد.
ثم صمت الجميع صمتاً مطبقاً. فصاح أحد الدراويش:
ــ لا إله إلا الله..
وردد آخر:
ــ ها قد أتانا حديثُ الغاشية.
فلم أفهم شيئا كثيراً مما كان يجري ويقال. وجدتني أهمس لنفسي محاذراً أن لا يسمعني أحد:
ــ يُحسب من حظوظ الرجال، أنهم يحلمون بأشياء سهلة التحقيق.. كالمال والنساء.. والخيل المُسَوَّمة والأنعام والحرث.. والبيوت والمزارع وعروش الحكم.. أما نحن الأطفال المساكين، فأحلامنا فقط تلامس الملائكة والجن.. وفقط تكاد تعانق الله..
***
{…. هناك من يزعم بأن قتيبة قد التقى ياكتين الشيرازي مرتين. في المرة الأولى حدثت في صدفة عابرة، فلم يتعرف أحدهما على الآخر. على الأصرح الأرجح كان الشيرازي يعرف قتيبة، ويعلم عنه كل شيء، كما سنعلم. أما قتيبة، فلم يتعرف الرجل الآخر..
لكنه حين كان في مدينة طوس، دله على المغارة التي يقيم فيها الشيرازي، رجل أصوله من مرو. كان عارفاً كل الصوفية والرِّبِّيين. وهو نفسه أقام في المغارات التي يقيم فيها الشكفتية في فترات. دلَّه على الصخرات الأربعة البيضاء، وقال له:
ــ هناك سوف تجد منفرجاً ضيقاً بين جبلين متعانقين. فإذا وصلت إلى المكان الصحيح، استدللت على الرجل واستدل عليك دون عناء.
وحين أبصرا بعضهما لأول مرة لبثا ينظر أحدهما في عيني الآخر لساعة من الوقت دون
أن يجرؤ أحدهما على أن يبتدر الآخر بالسلام أو الكلام. أخيراً تقدم قتيبة خطوات. فدنا منه الشيخ السبعيني، دون أن يتصافحا، سلما تسليماً حاراً كأنهما كان يعرف أحدهما الآخر منذ سنين طويلة. ودعاه الشيخ ياكتين لدخول المغارة المختبئة في شق عميق من الجبل.
ابتدأ الشيخ ياكتين الشيرازي بالقول:
ــ مكثت ثلاثين سنة لا يسمع لساني إلا من سري، ثم تغيرت الحال فمكثت ثلاثين سنة أخرى لا يسمع سري إلا من ربي..
قال قتيبة:
ــ قطعت بلاداً كثيرة في طريقي إليك.. ولقيت من العذابات ما لا يطيقه إنسانٌ غيري، حتى أجتمعَ بك.. أريدك أن تعلمني العلم كله..
ـ كله؟
ــ نعم.. قبل أن أرحل إلى تلك الأبدية التي أجهل عنها كل شيء، لا أريد أن ألقي بقبلتي الأخيرة على ذلك الشر الذي أعرف عنه كل شيء.
قال الشيخ ياكتين:
ــ ذهب الكلام وجواهره، وتجوهر في ما نتلفظ به حين يدنو الموت منا، ويغدو على مبعدة خطوات.
ــ هل انت صاحب مزاج؟
ــ صاحب مزاج صفراوي غاضب تارة.. راضٍ قانعٍ تارة أخرى.. ولا يناسبني الحشيش.
أسرع قتيبة يقول:
ــ لم أتعاطَ الحشيش في حياتي قط.
ولكن قبل وصوله إلى مغارة الشيرازي بمدة من الزمن، هنالك حكاية رواها تاجر مسنٌ من مرو عن قتيبة. قال:
ــ كان ثمة عصابة معروفة من قطاع الطرق، قطعت الطريق على قافلته عند جبال جرجان. ذكر التاجر بأن أصغرهم كان شاباً يدعى قداح القزويني، عرفه من خنصريه المقطوعين. ولقد حدث أن تاه الرجل أثناء طريقه إلى بخارى، وكاد أن يضيع الرجل بين مرو وجيحون.
وبعد مرور ساعات، صادف شاباً بخنصرين مقطوعين يسكن تجويفاً صغيراً بين صخرتين عملاقتين في الصحراء. وحيداً منعزلاً، فحسبه من الشكفتية الصوفية الذين يأوون إلى
المغارات والكهوف، رغم صغر سنه الذي لم يكن جلياً على مظهره الأشعث الأغبر. أضاف الرجل:
ــ كان بصحبتي صبي خادم يقوم على أمري وأمر قافلتي. وصدف أن انقطعنا حتى من ماء الشرب. فلم نجد بداً من أن نأوي إلى ذلك الشاب المنقطع بين مغارات تلك المتاهة على الطريق. انتبهت من نومي فجأة. وشعرت بأن خنجراً أو سيفاً كان قريباً من خاصرتي. كان الشاب يمسك سلاحاً بيده ويلعب به. فظللتُ ساكناً في موضعي وأنا أفكر في نفسي أنه قد يقتلني غدراً. ثم قلت لنفسي بأنه لو أراد أن يقتلني لقتلني. لم أتحرك من مكاني لشدة خوفي. وبقيت على جنبي أدعو الله أن يكف يده، حتى عاد إلى فراشه.
في الصباح دلني وخادمي الصغير على أفضل الطرق نحو جيحون. كان يعرف هذه الصحراء المنقطعة ويحفظها عن ظهر قلب. وذهبت وأنا في حال من كتب له عمر جديد.
أما آخر الأخبار التي دونها المدونون والمؤرخون عن قتيبة، قبل وصوله إلى مغارة الشيرازي، فكانت انتسابه إلى عصابة سرقة مؤلفة من خمسة عشر رجلاً. ومرة أخرى كان ينشطون ويقطعون الطريق بين جبال ألبرز من جهة جرجان. يختفون في شهور الصيف القليلة، ولا يُعرف بالضبط هل يظلون مستقرين في الجبال أم ينزلون عنها إلى
الحواضر القريبة، ثم يظهرون في شهور الشتاء الثلجية التي تمتد أحياناً إلى أكثر من ستة أشهر.
كانت لهم طقوس خاصة في السرقة، فهم ملثمون غالباً، ولا يتنقلون إلا على خيولهم. يغلب عليهم التنظيم والاحترافية. وروى بعض الإخباريين عنهم أن ثلاثة منهم قطعوا عليه الطريق في أول أيام الشتاء، حيث كان الثلج يتساقط بكثافة.
كانوا متدثرين تماماً بالفرو، لا تبرز منهم إلا أعينهم، اثنان منهما بيدٍ مقطوعة. وقد روى عنهم قتيبة نفسه، واصفاً إياهم بأنهم شراذم يستوطنون قنن الجبال التي تغيب وسط السحاب. يختبئون فيها، ويفاجؤون ضحاياهم بغتة. لو صادفتَ جماعة منهم ستجد أن بعضهم بيد مقطوعة من أثر قصاص قديم. وبعضهم بندوب في الوجوه قد شوهتها. وبعضهم الآخر مفقوء العين أو مقطع الوجه. كانوا أحياناً يقتلون من أجل القتل فحسب، وهم يتكلمون لغات غريبة لم تسمع بها من قبل، ولا تعلم كيف يفهم أحدهم الآخر.
كذلك روى إخباريٌ آخر عنهم ما مفاده:
ــ جميعهم سفّاحون، وخصوصاً رئيسهم.. وعلى امتداد عدة سنوات، سطت العصابة على عشرات المسافرين والقوافل، واختطفت ما لا يقل عن عشر نساء. وقد تم العثور
على جثث ثلاثٍ منهن، أما البقية فلا أحد يعرف ما الذي حلَّ بهن، أو على الأقل لم يصلنا شيء عن ذلك. كانت تروى عنهم أخبار غامضة، وكأن لهم مجتمعاً خاصاً بهم وأسلوب حياة هناك في الجبال….}
***
وبدا لي في ” أذِّنْ في الناس”..
وألهَمَني:
أذِّنْ في الناس بأنّ القُربَ مني له لسان، فمن عرفَني كلّمَني بلسانه، ومَن جَهلني كلمني بترجمانهِ.
وأذِّنْ في الناس بأنّ من عَرَفَ نفسَهُ عرَفني. ومن تاه عن نفسهِ تاه عني.
وأذِّنْ في الناس بأنّ الواقفين بي، واقفون في كلِّ شيءٍ. رغم كلِّ شيءٍ. خروجاً على كلِ شيءٍ.
وأذِّنْ في الناس بأنّ العقلَ يَذهلُ ويتذاهل، والنفسَ تشتطُ وتتخامدُ، وفي موقفي يفيءُ التذاهُلُ والتخامدُ إلى حذرِ العقلِ من العقلِ، وحَذَرِ النفس من النفس.
وأذِّنْ في الناس بأنَّ الصفةَ للموصوفِ تَثْبُتُ بالنزع والتثبيتِ. إلا صِفاتي فيك. فلا نازعَ لها ولا مُثَبّتُ. وأنَّ ما تفيضُ به القلوبُ لا تستطيعُ أن تَحْكُمَهُ الجيوبُ. وأنَّ أسلحة الأفئدة لا ينْثَـلُّ حدُّها، ولا تنكسرُ أمامَ العروشِ والجيوشِ
وألهمني:
أنا سَنَدُ من لا سندَ له، وحُجةُ من لا حجةَ له، وفئة من لا فئة له.
وألهمني:
توازعني في كل شيء، وفَرِّقـني في الأسواق ، واشترِ فرحَ الأطفالِ بي، واشترِ كلومَ المجروحين بي، واشترِ أسى الحزانى الأيامى المثقلين بي، واشترِ هموم المهمومين بي. إنك إن تُـفرقْني .. تجدْني مجتمعاً لك في كلِّ حاضرٍ وغائبٍ.
وألهمني:
إن لم تكنْ من خاصّتي فتشبه بهم. وَ واعجباهُ من حالي وحالك. وّ واعجباهُ من شأني وشأنك.. فمتى ألفيتني رحلتُ عنكَ فأنت من رحل، وأنت من أزمع الغيابَ لا أنا.
وألهمني:
العقلُ والمعقولات لها سائقٌ ، والجهلُ والمجهولات لا سائقَ لها، لأنها هي المركبة. فلا تسلكْ مسلكَ الجاهلين، حتى وإنْ أمطرتِ السماءُ جهلاً. وحتى إن أخصب الربيعُ بخضرةِ الجهل .
وألهمني:
إذا تحصنت بي قطعت ساحل المستحيل بسلام.. عند ذاك تستطيعُ أن تصطاد الرُّخَ بالباشق، وأن تصطاد البازَ بالحجل.
وألهمني:
لا أناشد ولا أنشد، ولا أقيل ولا أستقيل. الكلُّ ماضٍ بي، والكلُّ بائعٌ نفسه لي: إما لمطلق الحقيقة وإما لمطلق الوهم.