سيريا مونيتور ـ معبد الحسون
الفصل الرابع من رواية (حـيـنَ نُـفِـخَ فـي الـصُّور) :
أترك لمخيلتي أن تتجول في الحكايات الشتائية، التي تُروى قريباً من المواقد. عن فضاءات البطريق، وأنا مستمتعٌ بحكايات جارتنا، العمة تيتة، وهي تروي عنه قائلة:
ــ البطريقُ إن عطس، فهذا احتمالاً يُلزمُ الفيروسات أن يُحجَر عليها، لإجراء اختبار الكشف عن إصابتها بالوباء. أما إذا سعل البطريق فهذا يُحمَلُ على أن السيكارة هي التي يجب أن تتوقف عن التدخين، أو التخفيف من أضراره.
والبطريق حين يعبر بسيارته الشارع، تصبح ألوان إشارة المرور الثلاثية، جميعها خضراء اللون من تلقاء نفسها. والسيارات تُحَذِّر بعضَها وتتباعد حتى لا تصطدم ببعضها من الارتباك، متلفتة إلى اليمين واليسار، وإلى الوراء والخلف. كذلك فإن البطريق، من عاداته المعروفة والمألوفة بالبديهية، أنه يستطيع أن يرمي حجرين أو ثلاثة أو عشرة أحجار ـ ربما ـ بعصفور واحد. وهو يصيب الهدف، حتى وإن لم يرمِ، وهو يصيب الهدف حتى إن لم يكن هنالك من هدف ولا أحجار ولا عصفور.. فهو، إن رمى، فإن الله يرمي عنه، وإن لم يرمِ، فإن الله أيضاً يرمي عنه.
في المدرسة الابتدائية، المعلمون هم من يرفعون أيديهم لكي يستأذنوا بالكلام من البطريق، وهو تلميذٌ معهم، جالسٌ في مقعده. وإذا تأخر البطريق يوماً عن دوام المدرسة، يُعاقَب جميع التلاميذ لأنهم جاؤوا باكراً قبل بدء الدوام الرسمي. وبما أنه كائنٌ واحدٌ وحيدٌ لا ثاني له، تخجل المرآة أن تُسقِطَ صورتَه على صفحتها، حتى لا يُنسَبَ لها كذباً وزوراً، أنها نسخة ثانية عنه، وهو الذي لا نسخة له، ولا يحيط به تصور أو خيال، ويربأ التشبيه به عن مثال، فالبطريق ليس كمثله شيء.
وأقاطع تيتة بسؤال مباغت:
ــ والبطريق كم عمره؟ ومتى ولد؟
فتجيب:
ــ البطريق لا عمر له، ولا يعرف أحدٌ متى وُلد. المؤكد أنه ولد قبل البلد بزمن طويل..
ثم تختم العمة تيتة حديثها عن البطريق بالقول:
ــ للبكاءِ، يا بني، جسورٌ ينير السيرُ عليها سماواتِ الرجاء. ولا تقف مداميكُها إلا على وطيدِ الأعمال.
***
{…. الصعاليك الأربعة توزعوا في المكان بفوضى، ثم انقضوا بعشوائية كاسرة على الفتيات.. ضربوا الشيخ وتركوه ملقى خلف البيت تحت المطر. ضجوا بالعربدة والفجور، أكلوا ما صادفهم من طعام، وشربوا كل ما وقع في أيديهم من خمور. ثم أدخلوا الشيخ الذي كان بين الموت والحياة، وراحوا يتلون عليه آياتٍ من القرآن بقصد المهانة والضحك من المشهد. وخلال ذلك اغتصبوا الفتيات الثلاث في صالة ذلك الكوخ الخشبي. حيث الأب المسجى، وحيث كانوا يغنون ويرقصون ويتقيؤون في مواضعهم.
كان الوقت خريفاً، وثمة صفرة باهتة كانت تغشي المكان.. وحينما خرجت تلك العصبة من الأشرار بعد أيام، من ذلك الكوخ، خلَّفوا وراءهم جثة الأب الذي فارق الحياة، إلى جانب جثة ابنته الصغرى.. كانت إحدى الفتيات حاملاً. (بعض المؤرخين قال بأنها حملت من عصبة الأشرار تلك، وبعضهم أنكر ذلك، وزعم بأنها كانت حاملاً قبل وصولهم. وأنها كانت حاملاً من زوجها العربي الطائي الذي لا يذكرون اسمه).
كانت تلك المرأة الحامل هي والدة قتيبة.. أما البنت الثالثة، فقد تشوه وجهها بماء النار الذي هرقوه على وجهها. والتي ماتت بعدها بأيام كما ذكر أكثر من كاتب.
أحياناً تجتمع القسوةُ والغربة التي يستشعرها الإنسان في لحظة واحدة ومكان واحد. وقريباً يحل الربيع، ويحل بعده الصيف. ولسوف يجيء الخريف. ثم يزحف البرد ويحل الثلج.. وقتذاك سوف تزدهي تلك الغابة المحيطة بسهلٍ جبليٍ ذي تعرجات لها أشكال مختلفة.
تلك الطفولة ـ ويالها من طفولة ـ مغيبة أو غائبة عن كل حدث وذكر. ففي فترة تقع بين السابعة والسابعة عشرة ثمة فجوة وغيبة أخبار، لا نعلم ما كان فيها من أمر قتيبة. حيث لا مصادر تذكر أي شيء. وما الذي حدث له أو جرى عليه من أقدار بالضبط.
حين بلغ السابعة عشرة من عمره، انتسب قتيبة إلى عصابةِ أحداثٍ صغيرة في جبال “ألبرز” عند الديلم. ويَذكر هو نفسه أنه هرب من البيت الذي كان يقيم فيه ويأويه، قبل انضمامه إلى أولئك الفتية بسنوات لا يدرى ماذا كان يعمل خلالها. (ولم يذكر شيئاً مفيداً عن ذلك البيت، ولمن يكون).
فقد هرب منه وهو بعدُ يافعٌ، في سن الثالثة عشرة من عمره تقريباً. ولسوف يُذكر أيضاً أنه عمل قبل (أو بعد) هروبه صبياً في متجر أقمشة، في بكراباذ، فكان يسرق عدة شُـقّات من الأبريسم والقماش القطني ويبيعها بعيداً عن السوق، إلى أن قَبض عليه
صاحب المحل وطرده.. وها هو الآن في الطريق إلى بوشنج، بجانب نيسابور..
كان يقطع السهول السهبية التي اختلطت فيها حشائش العشب بأشجار السنديان. هنا تلبس الأوراق الصفراء الميتة، تلك التربة الكستنائية حتى يضيع عن مرأى العين ما يميز الخطوط الفاصلة بينهما. تتكسر الأوراق الصفراء تحت الأقدام والحوافر. ولقد مرَّ قتيبة بمَـزارع صغيرة تبرز في واجهتها أشكالٌ ظلية بشرية، (أخيلة مآتة). أو فزاعات طيور وطاردات قوارض، تثير الرهبة في النفوس كلما أقبل غاسقٌ أو وقبَ.
ويُستطار عزيف الجنيات في تلك الأمكنة وتلك السهوب، التي تلوب ما بين منحنيات الوديان. ثمَّ يغطي على كل منظر هنالك، بؤس الأرض والسكان، والمنظر الدائم التبدل بين حَفْرٍ وطَمْر، وغلظة ونعومة انسيابية، وفلاحة وحراثة وحصاد.
في تلك الأمكنة، صادف أن التقى شيخٌ رزينٌ يبدو عليه سيما أهل الوقار بقتيبة، فعطف ذلك الشيخ على منظر الصبي الذي يشيع من منظره البؤس والتشرد. والذي كان يمشي وحيداً في حَمَّارة قيظٍ وصيف حارق، فعرض أن يُركبه معه، حتى يصلا إلى ما كانا يذهبان إليه.
في أول ليلة دهمتهما، باتا تحت شجرة تين كبيرة. أخبر الشيخ العجوز قتيبة أنه عاش يعمل سنين طويلة في وظيفة عسكردارا (ناقل البريد). وأنه ترك وظيفته تلك لتوه في ديوان بلخ، عند رجلٍ يدعى أبا عبد الله الفارسي، حيث كان يعمل. وأنه اعتاد على حياة البراري والطرق حتى صار يستثقل حياة المدن ويكرهها. وختم بالقول:
ــ قررت أن أمضي بقية العمر، وأنا أضرب في كل فجاج الأرض. لأظل متنقلاً من مكان إلى آخر.
ثم روى الشيخُ فيما بعد:
ــ كان ذلك الفتى اليافع يجلس بصمت. غارقاً في أفكاره وهو متجهم يحدق. كأنه كان ينتظر حدوث شيء ما.. شيء لم يحدث منذ أن خلق الله الدنيا وما عليها..
وحينما أفاق الشيخ الطيب الوقور في الصباح، لم يجده. كما افتقد خيله وزاده. فتش في المكان بجواره. فلم يعثر على أثرٍ للصبي، كما لم يتعرف على وصفه أحد. كان قتيبة قد وصل إلى مدينة “نَسا”..
***
بدا لي في “المعنى”..
وألهَمَني:
ذهب “المعنى” يُطَوّفُ في الأرض. يقودُهُ من يده أجيرُهُ الخادمُ. بلغَ “المعنى” من الشيخوخة عِتياً، ومرِض من كثرةِ التجوال في كل الأصقاعِ والمدنِ والقرى. وبعد معاناةٍ شديدةٍ، واستبدادِ مرضٍ به، مات “المعنى” ذاتَ ليلةٍ من الليالي. فقام أجيرُهُ الخادمُ المُوكَلُ به، بواجب تكفينِهِ ودفنهِ.
تحررَ الخادمُ من سيدِهِ. وظلّ وحيداً يُتابعُ الرحلةَ من أرضٍ إلى أرضٍ، ومن بقعةٍ إلى بقعةٍ، بعد أن ارتدى ثيابَ سيدِهِ الراحلِ. كما حمل الأجيرُ هَويةَ مولاهُ وأوراقَه الشخصية، وصار مذ ذاك الحين هو “المعنى”.
وألهَمَنِي:
فإذا أمرتُك بشيءٍ، وظهرَ لك “المعنى”، بينك وبين الشيء، فاتَّبِعْ أمري ولا تتبع “المعنى”. فلـ “المعنى” متاحفُ تجدُ فيها معروضاتٍ، ماهي من المعارف، ولا هي من جنس المعارف. وإذا خمشكَ الـ “معنى” في سرِكَ، فأظهر له علانيتك، فإنه ينكمشُ بها. ولا يأتيكَ أمري إلا من بين حنايا أضلعِك، ولا يَصْدُرُ صدوري إلا من شغافِ القلبِ. فإذا استدللتَ عليَّ من غيرِ واحديةِ الطريق، فارقت الـ “معنى”.
وألهَمَنِي:
أطفالكم ولدوا من غير دين، فأهديتموهم هلوساتِكم، وذخائرَ ما اتصف في عقولِكم أنه الـ “معنى”. فالـ “معنى” قائمٌ في ذاكرة العدم، ولا معنى له إلا بأنْ أكسوهُ بحلِةِ معانٍ من معانيَّ. فإن سِرتَ خلفَ الـ “معنى”، وسار العلمُ عن يسارِ الـ “معنى”، وسارتِ المعرفةُ عن يمين الـ “معنى”، وسار أمري أمامَ الـ “معنى “.. فلا تبحثْ عني في الـ “معنى”، بلِ ابحثْ عن الـ “معنى” فيَّ.
وألهَمَنِي:
للـ “معنى” ستائرُ وأغطيةٌ وأوشحةٌ، ولا تُعتمني ستائرُ ولا أغطيةٌ ولا أوشحةٌ. فالـ “معنى” لا يثْبُتُ إلا في الصبر، ولا يتزعزع إلا فيه. كما أنَّ للصبرِ حدوداً ونهاياتٍ؛ إمّا فاض فائضُ الصبر.. فإذا وصلتْ خواتيمَهَا فانتظرْ واصطبرْ وارتقبْ. حتى يأتيَ الصبرُ بنفسه، فيدُلّكَ أنّى تسيرُ وإيانَ تمضي، وما الوجهةُ بعدُ..! فالصبرُ يعرفُ الدروبَ أكثرَ منكَ.