إليك سرد قصة “مفاعل الكبر النووي” الغامضة بعد 18 عاماً على عملية “خارج الصندوق”!
محمد الحاج
قبل 19 سنة، في مثل هذا اليوم، الخامس والسادس من الشهر التاسع 2007، كان أهالي دير الزور أمام حدث مجهول سرت حوله الشائعات والروايات المحلية لوقت طويل، ضوء لمع من منطقة نائية، واحتاج اكتشاف جزء من حقيقة أحد أبرز الأحداث التي مرت بصمت في تاريخ سوريا الحديث، من مصدر رسمي، لأحد عشر سنة.
وفي السادس من تموز 2018، خرج بيان إسرائيلي يكشف عن عملية اسمها “البستان”، استهدفت خلالها طائرات لجيش الاحتلال مجمعاً بمنطقة قرب “حلبية وزلبية” في دير الزور، بات يعرف لاحقأً باسم: “مفاعل الكبر النووي”.
تفاصيل ربما لم تُروَ بشكل كافٍ من قبل. نعيد اليوم سرد ما نعرفه عن هذه القضية، المرتبطة بعملية عُرفت باسم “خارج الصندوق”، والتي ما زالت حتى الآن من أكثر العمليات غموضًا وسرية، رغم كونها واحدة من أبرز الأحداث العسكرية في سوريا خلال العقود الأخيرة.
ليلة 6 سبتمبر 2007.. ما الذي حصل؟
ليلة السادس من أيلول/سبتمبر 2007، اخترقت طائرات لا يعرف عدددها ولا تبعيتها الأجواء السورية باتجاه محافظة دير الزور، حيث ألقت هناك ذخائر على منطقة، أيضاً لم تعرف إحداثياتها بدقة أو طبيعة المكان المستهدف، قبل أن تختفي دون أي عملية تصد لها بالمضادات أو صواريخ أرض – أرض.
وجاءت أول معلومة من وكالة الأنباء “سانا” فجراً، عند الثانية و55 دقيقة، إذ نقلت عن ناطق عسكري قوله إن “الطيران المعادي الإسرائيلي قام بالتسلل إلى الأجواء السورية قادماً من جهة البحر المتوسط باتجاه المنطقة الشمالية الشرقية، خارقاً جدار الصوت”.
وأكد المصدر حينها، في تصريحه المقتضب، أن “الدفاع الجوي أجبر هذه الطائرات على المغادرة بعد أن ألقت بعض ذخائرها دون أن تلحق أي أضرار بشرية”، محذراً “العدو الإسرائيلي من هذا العمل العدواني السافر”، وأن دمشق “تحتفظ بحق الرد الذي تراه مناسباً”.
وبعد أكثر من 15 ساعة، نفى متحدث عسكري من جيش الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ أي عملية، إذ نقلت عنه “إذاعة الحكومة” قوله: “لم يحدث هذا قط”، ليصرح متحدث باسم الخارجية الأمريكية بعد ساعتين عند سؤاله في مؤتمر صحفي يومي بأنه لم يسمع سوى “تقارير منقولة” وصفها بـ”المتناقضة”.
غياب رسمي لأي تفاصيل من الجانب السوري أو الإسرائيلي حول عملية القصف الجوي، ما زاد من التكنهات، إلا أن بدأ بعد أيام تسريب عبر الصحف الغربية يتحدث لأول مرة حول تدمير لما يعتقد أنه “منشأة نووية” داخل الأراضي السورية.

معلومات تظهر
بدأت تظهر للعلن معلومة عبر تقارير لوسائل إعلام أمريكية وبريطانية أن القصف الإسرائيلي “قد يكون الغارة الأكثر جرأة منذ أن دمرت طائراتها المفاعل النووي لصدام حسين في 1981″، في ظل فرض رئيس الوزراء إيهود أولمرت حظراً على نشر الأخبار بشأن الغارة الجوية ليلة السادس من سبتمبر على سوريا.
وتشير التفاصيل التي سربت إلى سلسلة من الصحف الأجنبية، أن 8 قاذفات إسرائيلية من طراز “إف-15” دخلت المجال الجوي السوري في الساعات الأولى من صباح 6 أيلول/سبتمبر، ونجحت في التهرب من الرادارات والدفاعات الجوية السورية، لتدمر “مركز أبحاث” على نهر الفرات شرقي البلاد.
وجاء في تقرير لصحيفة “الغارديان”: “تعتقد الاستخبارات الإسرائيلية أن كوريا الشمالية، التي زودت سوريا بتكنولوجيا الصواريخ سابقًا، بدأت بتزويدها بالمواد النووية في الأشهر الأخيرة. وعند مغادرتها سوريا، ألقت الطائرات الإسرائيلية خزانات الوقود الإضافية فوق تركيا”.
وانتشر الخبر في الأوساط الإسرائيلية، وسط استمرار إصرار الحكومة على الصمت التام، إذ اعتبرت ميري إيسين المتحدثة باسم مكتب أولمرت، أنهم لا يردون على “تكهنات الإعلام”، فيما اكتفى الجانب السوري بتصريح “سانا” المقتضب بُعيد العملية.
وبدأت التكهنات تتحدث عن استهداف لإمدادات بأسلحة إيرانية إلى سوريا أو “حزب الله” أو قصف لقواعد تدريب مسلحين فلسطينيين، مع “تدفق المعلومات من الولايات المتحدة يبدو أنه يؤكد أن الهدف كان مشروعاً كورياً شمالياً سورياً”.
للمرة الأولى: معلومات تفصيلية
معلومات تفصيلية للمرة الأولى حول العملية، نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” يوم 21 أيلول/سبتمبر 2007، قيل فيها إن الهجوم جرى بسرية صارمة، بينما اطلع الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش على معلومات عن دور نووي كوري شمالي في سوريا.
ونقلت الصحيفة عن خبير في الشرق الأوسط قابل طياراً شارك بالهجوم، إنهم “عملوا في ظل أمن عملياتي صارم لدرجة أن الطيارين الذين كانوا يحلقون بغطاء جوي للطائرة الهجومية لم يعرفوا تفاصيل المهمة”، مؤكداً أنهم لم يطلعوا على المهمة إلا في الجو.
وأشار التقرير إلى أن الهجوم الإسرائيلي جاء بعد ثلاثة أيام من رسو سفينة كورية شمالية في ميناء طرطوس، محملة بشحنة أدرجت رسمياً كأسمنت، إلا أن دور السفينة بقي غامضاً، في ظل تضارب المعلومات حول حمولتها.
وقالت مصادر إسرائيلية إن السفينة كانت تحمل معدات نووية، بينما أكد آخرون أنها تحتوي على أجزاء صاروخية فقط، في حين اعتبر البعض أن “وصول السفية والهجوم كانا مجرد صدفة”.
لم يجزم في تلك الفترة إذا كان الموقع نووياً، بل بقي مصطلح “مشتبه به” مستخدماً في التقارير الإعلامية حوله، وهو ما قالته مصادر حكومية أمريكية لـ”واشنطن بوست” عبر تأكيدها أن القرار بتنفيذ الهجوم جاء بعد أن أطلعت إسرائيل الرئيس بوش على معلومات استخباراتية تشير لوجود موظفين نووين كوريين شماليين في سوريا.

دير شبيغل تكشف جزءاً من اللغز!
استمر الغموض يحيط بهذه العملية التي استهدفت مجمعاً سرياً في دير الزور، إلى أن خرجت مجلة “دير شبيغل” الألمانية بتقرير بعد عامين، قالت إنه لم يحل اللغز بشكل كامل إلا أنه كشف أجزاء كثيرة منه، كما قدم “تقييمًا لعملية غيّرت وجه الشرق الأوسط وأحدثت موجات صدمة لا تزال محسوسة حتى اليوم”.
تحدثت “دير شبيغل” مع أفراد شاركوا في العملية وسياسيين والرئيس المخلوع بشار الأسد وخبير استخبارات إسرائيلي بارز ومدير الوكالة للطاقة الذرية حينها محمد البرادعي وخبير نووي أمريكي، في محاولة للإجابة على أسئلة أهمها إن كانت المنشأة نووية بالفعل ومن كان يعمل بها.
تلقى طيارو السرب قبيل الساعة الحادية عشرة مساء الخامس من سبتمبر/أيلول 2007، أمراً روتينياً اعتيادياً، يأمرهم بالاستعداد لتمرين طارئ، حيث انطلقت عشر طائرات متاحة في مطار رامات دافيد الجوية قرب مدينة حيفا، واتجهت إلى البحر الأبيض المتوسط، لتنفيذ منازرة هدفها التمويه وصرف النظر.
وصدرت الأوامر لسبع طائرات بالتحليق على ارتفاع منخفض باتجاه الحدود السورية، بينما أمرت ثلاث طائرات من طراز “إف-15” بالعودة إلى قواعدها.
وحسب “دير شبيغل” دمرت الطائرات السبع محطة رادار، وخلال 17 دقيقة طيران إضافية وصلت إلى المنطقة في دير الزور، بعد برمجة الطيارين إحداثيات مجمع “الكبر”، وكانت القنابل التي استهدفت أكثر تدميراً مما ينبغي، فلا فرق بمقتل عدد قليل من الحراس أو أكبر عدد من الأشخاص، بالنسبة للإسرائيليين.
وبمجرد التأكيد بأن الهدف قد دمر، اتصل إيهود أولمرت برئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب أردوغان (الرئيس الحالي)، طالباً منه إبلاغ بشار الأسد أن تل أبيب “لن تتسامح مع أي محطة نووية أخرى ولا يوجد أي خطة لعمل عدائي آخر”.
وقال أولمرت: “إسرائيل لا تريد تضخيم الحادث، ولا تزال مهتمة بإحلال السلام مع دمشق. وأضاف أنه إذا اختار الأسد عدم لفت الانتباه إلى الضربة الإسرائيلية، فسيفعل الشيء نفسه”، حسب ما نقلت المجلة، وهكذا بدأ صمت مطبق حول الحادثة الغامضة في الصحراء.

ما تعليق بشار الأسد؟
في كانون الثاني/يناير 2009، أجرت “دير شبيغل” مقابلة مع بشار الأسد في دمشق، نفى خلالها أن تكون المنشأة التي قصفت في دير الزور نووية.
وأكد بشار أنها منشأة عسكرية تقليدية، قائلً إن سوريا تعارض انتشار الأسلحة النووية: “لا أعتقد أن إيران تسعى لتطوير قنبلة نووية (…) نريد شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية، بما في ذلك إسرائيل”، كما أضاف: “كان بإمكاننا الرد. لكن هل نسمح لأنفسنا بالانجراف إلى حرب؟ حينها كنا سنقع في فخ إسرائيلي”.
وحول عثور مفتشي الوكالة الدولي للطاقة الذرية على آثار يورانيوم، قال بشار: “لم يأتِ هذا اليورانيوم من عندنا. ربما أسقطه الإسرائيليون جوًا ليجعلونا هدفًا لهذه الشكوك تحديدًا. لو كان لدينا ما نخفيه، لما سمحنا لأي مفتشين بدخول البلاد”.
وتحدث الأسد بوضوح أن سوريا لن تسمح للمفتشين بأخذ عينات إضافية وتفتيش منشآت سورية أخرى، معتبراً أنهم منحوا فرصة لإجراء تحقيقاتهم، لكن “هذه لعبةٌ سياسية. إنهم يحاولون تشويه سمعتنا”، وفق تعبيره.

الوكالة الذرية: آثار اليورانيوم من صنع الإنسان
بعد تصريح بشار الأسد، رفضت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في شباط/فبراير 2009، الادعاء أن آثار اليورانيوم المأخوذة من موقع المفاعل النووي المزعوم جاءت من غارة إسرائيلية، مؤكدة أنها “كانت من صنع الإنسان”.
النتائج التي خلصت إليها الوكالة، تعزز الادعاء الإسرائيلي الأمريكي بأن المنطقة المستهدفة في دير الزور كانت مفاعلاً سرياً معداً لإنتاج أسلحة نووية في نهاية المطاف، منددة بالوقت ذاته بالحكومة السورية لعدم تعاونها مع التحقيق، كما شكك التقرير صراحة في النفي السوري.
وأوضح التقرير: “سوريا ذكرت أن مصدر جزيئات اليورانيوم هو الصواريخ المستخدمة لتدمير المبنى (…) يشير تقييم الوكالة الحالي إلى احتمال ضئيل أن يكون اليورانيوم قد أُدخل باستخدام الصواريخ، إذ إن التركيب النظيري والكيميائي وشكل الجزيئات لا يتوافقان مع ما هو متوقع من استخدام الذخائر القائمة على اليورانيوم”.
وبعد زيارة أولية في حزيران/يونيو 2008 كشفت عن وجود يورانيوم معالج، لم يسمح لمفتشي الوكالة بالعودة إلى دير الزور ومواقع أخرى ربما خزن بها الحطام على أساس أنها “منشأة عسكرية”.
تحليلات إضافية للعينات الأصلية أجراها خبراء في مقر الوكالة في فيينا، ووجدوا المزيد من آثار اليورانيوم، إذ يفصل التقرير: “جزيئات اليورانيوم هذه من نوع غير مدرج في مخزون سوريا المعلن من المواد النووية”.
وطلب التقرير حينها “توضيحًا للجهود التي تبذلها جهات سورية لشراء مواد ومعدات من شأنها دعم بناء وتشغيل مفاعل نووي”، معتبراً ان ردود دمشق على أسئلة المفتشين بأنها “جزئية فقط وتضمنت معلومات قدمت بالفعل إلى الوكالة، ولم تعالج معظم الأسئلة التي أثيرت في اتصالات الوكالة”.
“تتشابه خصائص المجمع، بما في ذلك سعة مياه التبريد، إلى حد كبير مع خصائص المفاعل النووي، وهو أمر يتطلب توضيحًا عاجلًا”، يقول أحد خبراء الوكالة وفق ما نقلت “دير شبيغل” في تقرير لها سنة 2009، وتضيف أنه في”لغة مسؤولي الأمم المتحدة الحذرة، يُعد هذا بمثابة حكم إدانة”.
وجمع خبراء الوكالة الدولية حينها عينات من التربة بعناية فائقة واستخدموا مناديل خاصة لإزالة آثار المواد الدقيقة من الأثاث أو الأنابيب التي لا تزال في الموقع، ليرسلوا بعدها العينات إلى مختبرات الوكالة قرب العاصمة النمساوية فيينا.
هناك، خضعت العينات “لتحليلات نظائر فائقة الحساسية قادرة على تحديد ما إذا كانت العينات قد لامستها يورانيوم مشبوه. وبالفعل، أسفر التحليل عن نتائج مثيرة للقلق”.

“حصان طروادة” في حقيبة مسؤول سوري!
عملية استخباراتية صادمة، نشرت عنها “دير شبيغل” في تقريرها الذي أعدته على مدار أشهر في 2009، لم يتسن لنا مقاطعتها مع مصادر إعلامية أو رسمية أخرى، تمكن خلالها جهاز “الموساد” الإسرائيلي سرقة بيانات سرية تعتبر بمثابة الكنز حول مفاعل “الكبر” من مسؤول سوري خلال تواجده في بريطانيا.
وتقول التفاصيل، إن مسؤولاً حكومياً رفيع المستوى نزل في فندق بحي كنستيغتون اللندني الراقي، أواخر 2006، بالتزامن مع وصول وفد استخباراتي عسكري من تل أبيب لطلب رأي البريطانيين، حول العملية في دير الزور.
كان المسؤول السوري تحت مراقبة “الموساد” وتبين أنه مهمل للغاية، إذ ترك حاسوبه في غرفته بالفندق عند مغادرته، وهنا، انتهز عملاء إسرائيليون الفرصة لتثبيت ما يسمى “حصان طروادة” لسرقة البيانات على الحاسوب، ليحصلوا على مخططات بناء ورسائل ومئات الصور من القرص الصلب.
تضيف “دير شبيغل” أن هذه الصور أظهرت مجمع الكبر في مراحل إنشائه المختلفة، بدا فيه مظهر مثير للريبة يتمثل بأنابيب تؤدي إلى مضخة مياه على نهر الفرات، في حين أظهرت صور لاحقة أن موقع البناء الأولي دعم بأسقف خرسانية، وظيفتها واحدة فقط: “تعديله بحيث يبدو غير مثير للريبة من الأعلى”.
الولايات المتحدة نشرت صوراً في 2008 زعمت أنها لموقع “الكبر” خلال الإنشاء.

صور من الداخل، عثر عليها في حاسوب المسؤول الحكومي، “كشفت أن ما كان يجري في الموقع كان في الواقع على الأرجح عملاً على مواد انشطارية”.
وقالت الولايات المتحدة إن الصور، أظهرت تشابها مذهلا بين المنشأة السورية والمفاعل الكوري الشمالي في يونغ بيون، لكن المنشأة لم تكن جاهزة للعمل بعد ولم يكن هناك وقود للمفاعل، وفق مسؤولين.
الصورة المرفقة، نشرت في تقرير لـ”بي بي سي” في 25 نيسان 2008، قالت إن أمريكا نشرتها في مقارنة بين المفاعل المزعوم في سوريا والآخر في كوريا الشمالية.

وفي صورة ثانية، ظهر رجل آسيوي ببنطال رياضي أزرق، يقف مع شخص عربي، حدد الموساد “سريعاً” هويتهما: تشون تشيبو عضو بارز بالبرنامج النووي الكوري الشمالي، ويعتقد الخبراء أنه كبير مهندسي مفاعل البلوتونيوم في يونغبيون، والآخر هو إبراهيم عثمان، مدير هيئة الطاقة الذرية السورية.
أيضاً، أشارت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للصورة، التي تظهر رجلين يقفان جنباً إلى جنب، هي لرئيس محطة الطاقة النووية الكورية الشمالية ورئيس لجنة الطاقة الذرية السورية معاً في سوريا، وفق ما ذكرت.
الصورة التي نرفقها في مادتنا، أيضاً نشرت في وسائل إعلام عدة منها تقرير “بي بي سي”، ومصدرها الاستخبارات الأمريكية “سي آي ايه”.

الحصول على هذه البيانات والصور، أدى لحالة تأهب قصوى لدى الموساد والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، ودفعت إيهود باراك للتساؤل إن كان سيعاد تشغيل المفاعل قريباً وعن الحاجة لاتخاذ إجراء، وتضيف المجلة: “كان من المرجح أن المحطة النووية على نهر الفرات قد دخلت مرحلتها الرئيسية الأولى”.
بالعودة عامين في الزمن، وتحديداً في ربيع 2004، رصدت وكالة الأمن القومي الأمريكية “NSA” عددًا كبيرًا من المكالمات الهاتفية المثيرة للريبة بين سوريا وكوريا الشمالية، مع وجود خط اتصال نشط بشكل ملحوظ بين العاصمة الكورية الشمالية بيونغ يانغ ومكان في الصحراء الشمالية السورية، هو “الكبر”.
وحسب “دير شبيغل” أرسل ملف وكالة الأمن القومي إلى الوحدة “8200” التابعة للجيش الإسرائيلي، المسؤولة عن الاستطلاع اللاسلكي، التي نصبت هوائياتها في التلال القريبة من تل أبيب، لمراقبة موقع “الكبر”.
جغرافية مجمع “الكبر”
في مقال على موقع “المراسلون الذريون” للمفتش السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية بوب كيلي، قدم فيها قراءة ونصائح للمفتشين حول موقع الكبر المشتبه بأنه مفاعل نووي في دير الزور، كما تقدم المقال تفاصيل حول جغرافية الموقع، نعرضها لكم كما وردت:
“-تفقّد أنقاض “مبنى المكاتب” الواقع على بُعد حوالي 150 مترًا شمال المبنى المدمّر. هذا هو المكان الذي أُبلغ عن وجود جزيئات يورانيوم فيه عام 2008.
-فحص أي بنية تحتية باقية مثل المضخات وخزانات التخزين بحثًا عن مياه العملية.
-وثّق إمدادات الكهرباء للموقع. وثّق أي دليل على وجود ألغام في موقع المبنى المُقْصَف، وخاصةً على بُعد 150 مترًا شرقًا.
-تفقّد غرفة الضخ على ضفة النهر، على بُعد حوالي 800 متر غرب المفاعل. تأكّد من أمن الموقع، وإمدادات الكهرباء، وإمدادات الطاقة الطارئة، وحجم المضخات. حدّد مصدر تصريف الماء الساخن (إن وُجد) وأنابيب الإمداد من نهر الفرات”.

ونصح أيضاً “بزيارة محطة معالجة المياه الواقعة على بُعد 5 كيلومترات شرق الموقع المُقصف. يبدو أن هذا الموقع متصل بطريق مُمهد جيدًا، وخطوط كهرباء، وخطوط مياه بالمبنى المُقصف. تأكد من توصيله بالموقع المُقصف”.
وشرح: “بُنيت محطة معالجة المياه قبل الموقع المقصوف بعدة سنوات. في عام 2004، بدت مكتملة في صور الأقمار الصناعية، وتحتوي على مناظر طبيعية ناضجة كالأشجار. لم يكن المبنى المقصوف مكتملًا بنفس القدر في عام 2004”.
كما أشار المفتش السابق بوب كيلي إلى ضرورة “تفقّد محطة الضخّ المُحصّنة جيدًا على ضفاف نهر زلبية، على بُعد 4.2 كيلومتر جنوب المبنى المقصوف. تُزوّد هذه المحطة محطة معالجة المياه التي تُغذّي المبنى المقصود. حدّد (للمفتش) غرضها والمسؤول عنها”.
كذلك قال في نصائحه: “زُر ساحة تحميل السكك الحديدية في زالابيا، التي يبدو أنها تُحمّل موادًا سوداء مُستخرجة من المناجم (فحم أنثراسيت؟) في عربات السكك الحديدية. تحقق من أي صلة بالموقع المقصوف. وثّق أنماط حركة المرور على الطرق التي تربط موقع تحميل السكك الحديدية والمبنى المقصوف ومحطة معالجة المياه. ما سبب ارتباط المواقع الثلاثة؟”.
“تفقّد منجم ملح تبني الواقع على بُعد 17 كم جنوب المبنى المقصوف. يرتبط منجم ملح التبني بتخزين النفايات المشعة. إن قرب موقع التخلص من المواد المشعة المُقترح من المبنى المقصوف يجعلانه خيارًا واضحًا للتفتيش وأخذ العينات لمعرفة ما إذا كانت الحطام الملوث باليورانيوم من المبنى المقصوف مُخبأة هناك بالفعل”، يقول “بيلي”.
ويرى أن منجم التبني “يزود بالمياه من نهر الفرات من مُجمّع مضخات مُطابق تقريبًا للمُجمّع الذي يدعم المُجمّع المقصوف. هل هناك صلة إدارية بين الاثنين، ربما من خلال الشركة العامة للفوسفات والمناجم (GECOPHAM). ترتبط هذه الشركة بمنجم ملح تبني ومصنع سوبر فوسفات حمص وربما منشأة تحميل السكك الحديدية في زلبية ومنشآت معالجة المياه”.
وختم نصائحه التي تعرفنا أكثر عن الموقع بضرورة “زيارة إلى منشأة مرج السلطان في ريف دمشق (خط العرض 33.4953، خط الطول 36.4410). حُدِّد هذا الموقع علنًا كمنشأة لمعالجة اليورانيوم، ويُعتقد أنه مرتبط بالمبنى الذي قُصف في الكبر”.

إسرائيل تعترف رسمياً.. بعد 15 عاماً!
غابت التفاصيل واستمر الغموض بعد انطلاق الثورة السورية في آذار/مارس 2011، حول ما حصل في دير الزور، إلى أن اعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد 15 عاماً، في آذار/مارس 2018، بأنه نفذ عملية اسمها “البستان” لضرب ما قال إنه مفاعل نووي في دير الزور.
وأوضح جيش الاحتلال أن أربع طائرات طراز “إف-16” وأربع طائرات طراز “إف-15” أغارت على منطقة الكبر يوم 5 أيلول/سبتمبر 2006، بعد عامين من متابعة استخباراتية، أفضت إلى تدمير المفاعل الذي أشارت التقديرات أنه سيصبح جاهزاً للعمل قبيل نهاية 2007.
و”تضمن مسار الطيران المختار تخطيطًا دقيقًا لاستهلاك الوقود، والتحليق تحت الرادار ووسط تعتيم شديد بمشاركة طائرات “ستورم” و”سوفا”، بالإضافة إلى “أنواع مختلفة من الذخيرة. وانتهت العملية، التي بدأت عند الساعة 22:30 مساءً، بعودة طائراتنا إلى قاعدتها عند الساعة 02:30 فجرًا”، حسب البيان.
وأضاف حول العملية: “طريقة الهجوم التي تم اختيارها أخيرًا واحدة من بين عدة خيارات تم التخطيط لها والتمرن عليها لدى سلاح الجو، حيث وبفضل القدرة العملياتية المرنة، تسنى شن الهجوم في غضون 12 ساعة من استلام الأمر”.
وبث جيش الاحتلال مقطعاً مصوراً، زعم أنه يوثق لحظة القصف على ما قال إنه مفاعل نووي في منطقة الكبر بدير الزور، كما يظهر اجتماع عدد من مسؤولي جيش الاحتلال لمراقبة العملية.
وكشف جيش الاحتلال للمرة الأولى أيضاً، عن ما زعم أنها وثيقة استخباراتية تعود لعام 2002، تشير إلى محاولة سوريا دفع مشروع استراتيجي يثير شكوكاً حول اهتمام في مجال إنتاج تهديد نووي، وقد تؤدي إلى تطوير خطة بذلك.
تكاثر نووي كوري شمالي في صحراء سوريا!
قال مسؤولون أميركيون كبار، في نيسان/أبريل 2008، إن مقطع فيديو صور داخل “الكبر” أقنع الحكومة الإسرائيلية وإدارة بوش بأن كوريا الشمالية تساعد في بناء مفاعل مماثل لمفاعل ينتج البلوتونيوم لترسانة كوريا الشمالية النووية، وقالوا إن المقطع سيتم عرضه على المشرعين اليوم.
ونقلت “إن بي سي نيوز” حينها، أن المقطع يظهر كوريين شماليين بداخل المجمع في دير الزور، “وقد لعب هذا دورًا محوريًا في قرار إسرائيل قصف المنشأة في وقت متأخر من ليلة السادس من سبتمبر/أيلول الماضي”.
ونقلت عن مصادر مطلعة على الفيديو إنه “يُظهر أيضًا أن تصميم قلب المفاعل السوري هو نفسه تصميم مفاعل كوريا الشمالية في يونغ بيون، بما في ذلك تكوين متطابق تقريبًا وعدد فتحات قضبان الوقود”.
من جانبه، صرح مسؤول استخباراتي أمريكي لـ”إن بي سي نيوز” بأن المقطع يظهر “تشابهًا ملحوظًا من الداخل والخارج مع يونغ بيون”، فيما اعتبر خبير في الأسلحة النووية المقطع بأنه “مُدان للغاية”.
وفي مقال نشر في 2010، لـ”غريغوري إل شولتي”، سفير للولايات المتحدة لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بين عامي 2005 و2009، يتحدث فيه عن دور كوريا الشمالية النووي المحتمل في سوريا.
ورأى أن “لدى كوريا الشمالية ميل للتكاثر النووي لكسب لقمة العيش، والتحذير من هذا التكاثر يكمن في صحراء سوريا (…) دمر هذا المفاعل قبل بدء تشغيله، ولم تكن له أي استخدامات مدنية واضحة. بُني بسرية تامة ودون إخطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية”.
وأضاف: “بعد تدميره بالقنابل الإسرائيلية، سارعت سوريا إلى إخفاء بقاياه عن التدقيق الدولي. هُدم جزء كبير من تلة مجاورة فوق بقايا المفاعل، وشيد مبنى جديد فوقه (…) وتشير التقارير إلى أن خبراء من كوريا الشمالية شاركوا في عملية البناء والتستر”.
ويشرح: “كان المفاعل المُبرَّد بالغاز والمُهَدَّد بالجرافيت مُشابهًا بشكلٍ لافتٍ للمفاعل الكوري الشمالي في يونغ بيون، وهو نفس المفاعل الذي أنتج البلوتونيوم لمخزون بيونغ يانغ الصغير من الأسلحة النووية (…) الشكل الخارجي يبدو مُشابهًا لحدٍ كبير حتى أخفي شكل المنشأة في سوريا بسقفٍ وجدرانٍ زائفة”.
“لا يزال الغموض يكتنف معظم جوانب المشروع المشترك بين سوريا وكوريا الشمالية، من مصدر وقود المفاعل إلى التمويل، ودوافعه”، يقول “إل شولتي”، مضيفاً: “ربما كان بشار الأسد، يسعى إلى مكانة شخصية أو نفوذ إقليمي أو رادع قوي ضد إسرائيل”، بينما يرجح أن قادة بيونغ يانغ يسعون فقط للمال.
بعد 18 عاماً.. نتائج جديدة!
بعد سقوط النظام السابق وهروب بشار الأسد، فتحت صفحة جديدة مع الوكالة الذرية للطاقة الدولية التابعة للأمم المتحدة، وأعلنت الثلاثاء الماضي، أن مفتشيها عثروا على آثار لليورانيوم يعتقد هذه المرة أيضاً خبراء الوكالة أنها من موقع كان جزء من برنامج نووي سري في عهد الأسد الأب وابنه المخلوع.
وقال “بعض جزيئات اليورانيوم هذه تتوافق مع تحويل تركيز خام اليورانيوم إلى أكسيد اليورانيوم”. سيكون هذا نموذجيا لمفاعل الطاقة النووية.
وفي العام الماضي، أخذ مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية عينات بيئية في “ثلاثة مواقع يزعم أنها مرتبطة وظيفيا” بموقع دير الزور، و”كشف التحليل عن عدد كبير من جزيئات اليورانيوم الطبيعية البشرية المنشأ في عينات مأخوذة في أحد المواقع الثلاثة”، حسب المتحدث باسم الوكالة فريدريك دال.
يذكر أن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، التقى بشار الأسد في آذار 2024، فيما اعتبره إعادة “فتح حوار مع دمشق”.
وبعد هروب الأسد، زار “غروسي” مجدداً دمشق في حزيران/يونيو الفائت، والتقى رئيس سوريا في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، وصرح أن الإدارة الجديدة وافقت على منح مفتشي هيئة الرقابة الدورية “حق الوصول الفوري إلى المواقع النووي السابقة المشتبه بها”.
وقال غروسي في مقابلة حينها مع “أسوشيتد برس” إن هدف الوكالة هو “توضيح بعض الأنشطة التي جرت في الماضي، إذ تعتقد الوكالة أنها ربما كانت مرتبطة بالأسلحة النووية”. واصفاً الإدارة الجديدة بأنها “ملتزمة بالانفتاح على العالم والتعاون الدولي”.
وأعرب المسؤول عن أمله في الانتهاء من عملية التفتيش خلال أشهر.
وأوضح المسؤول، في مقابلة مع “أسوشيتد برس”، أن الهدف هو “توضيح بعض الأنشطة التي جرت في الماضي، والتي ترى الوكالة أنها ربما كانت مرتبطة بمحاولة الحصول على أسلحة نووية”.
وأشار إلى أن “الشرع” أبدى اهتمامه بالسعي إلى تطوير الطاقة النووية لسوريا في المستقبل، متسائلاً: لماذا لا؟”، كما وقّع غروسي مذكرة تفاهم مع وزير الخارجية أسعد الشيباني بشأن التعاون في مجال أمن الغذاء ومكافحة السرطان، ضمن مبادرتي “الذرة من أجل الغذاء” و”أشعة الأمل” التابعين للوكالة.
وقال غروسي إن سوريا “ستنظر على الأرجح في مفاعلات معيارية صغيرة أرخص وأسهل في النشر من المفاعلات الكبيرة التقليدية”.
وأكد لـ”أسوشيتد برس” أن المفتشين يعتزمون العودة إلى المفاعل في دير الزور، بالإضافة إلى 3 مواقع أخرى ذات صلة، تشمل مفاعلاً نيوترونياً مصغراً في دمشق، ومنشأة في حمص لمعالجة اليورانيوم الأصفر.
وأضاف: “نُحاول تضييق نطاق التركيز، ليشمل المواقع أو تلك التي قد تكون ذات أهمية. وفي حين لا توجد مؤشرات على وجود انبعاثات إشعاعية من المواقع، فإن الوكالة تشعر بالقلق من أن اليورانيوم المخصب قد يكون موجوداً في مكان ما، ويمكن إعادة استخدامه، أو تهريبه، أو الاتجار به”.
وأشار إلى أن رئيس سوريا في المرحلة الانتقالية “أبدى موقفاً إيجابياً للغاية للتحدث معنا والسماح لنا بتنفيذ الأنشطة اللازمة”.

مع إتاحة وصول المفتشين إلى “الكبر” رغم ما طرأ عليه من طمس للدلائل ومحاولة إخفائها، يبدو أن النتائج النهائية الحاسمة ستظهر قريباً، ليحصل السوريون على الحقيقية حول ما يمكن اعتبارها، واحده من أكثر القضايا غموضاً وسرية في تاريخ سوريا الحديث.
نقلاً عن روزنة