سيريا مونيتور
بجسده الهزيل وتعابير وجهه الحزينة ودموعه الغزيرة، تحول مازن حمادة إلى رمز لمعاناة ضحايا التعذيب في سوريا، إذ بعدما هرب من سوريا إلى هولندا، أخذ يسافر في طول البلاد وعرضها، ويحكي قصصاً مرعبة تعرض لها في أحد السجون بدمشق أمام جمهور سمعه في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا.
ولكن بعد كل هذا، ولسبب خفي وغامض، لعله الرغبة بالانتحار، عاد إلى سوريا قبل عام، ليتعرض من جديد لوحشية النظام الذي انتقده بشدة.
اختفى مازن منذ ذلك الحين، تاركاً أصدقاءه وعائلته يعيشون في ألم وهم يفكرون في السبب الذي دفع الشاب الذي عاش تجربة مريرة بالعودة إلى حضن جلاديه، وأكثر ما يخشونه هو أن يعيش كابوساً جديداً داخل منظومة السجون في سوريا.
هل كان سلوكه الغريب يعبر عن صدمة دفعته لاتخاذ قرارات غير منطقية؟ أم أن هنالك من أغراه بالعودة إلى سوريا من المؤيدين للنظام الساعين لإسكات شاهد على جرائم الحرب حسب الشكوك التي أثارها من يعرفون مازن؟
أم أنه بكل بساطة تحرر من وهم الحياة في الغرب ولهذا بات على استعداد للمخاطرة بحياته والعودة إلى بلاده؟ وهل خلق عدم اكتراث العالم وعدم سعيه لوقف سفك الدماء إحساساً لديه بأن بلاده ومحنتها قد تعرضت للخيانة؟
تصب تلك الإجابات في قلب مأساة سوريا، ذلك البلد الجميل المعذب، الذي فشلت فيه الاحتجاجات السلمية ضمن موجة الربيع العربي فشلاً ذريعاً وكارثياً قبل عقد من الزمان. إذ تكشف المقابلات التي أجريت مع معارف مازن والشهادات التي تركها صورة لشاب يتعذب بشكل كبير بسبب الفظائع التي عاشها لدرجة أنه لم يعد يستطيع أن يتكيف مع حياته الجديدة في أوروبا، أو حتى يتقبل فكرة عدم وجود قصاص أو قيام محاسبة أو عدالة تجاه المعاناة التي عاشها.
نشوة القيام ضد النظام
عندما ثار السوريون في عام 2011، كان مازن الذي كان حينها في الثالثة والثلاثين من عمره يعمل فنياً في مجال النفط بالقرب مسقط رأسه شرقي محافظة دير الزور. كان السوريون حينها قد استلهموا فكرة إسقاط الرئيس من تونس ومصر وهكذا نزل الشعب إلى الشوارع في مختلف أنحاء البلاد للمطالبة بخلع بشار الأسد الذي حكمت أسرته سوريا لأكثر من أربعة عقود حينها.
اجتاحت نشوة الثورة مازن في ذلك الحين، ففي المقابلات التي أجريت معه فيما بعد، كانت عيناه تشعان بنور يكشف عن سعادة فريدة وهو يصف الأيام الأولى للاحتجاجات السلمية التي كانت مفعمة بالحماسة والنشوة، حيث قال: “عندما ترى المظاهرات، يطير قلبك من الفرح، أقسم ألا أحد كان يصدق حدوث ذلك” هذا ما ذكره مازن في مقابلة أجرتها معه سارة أفشار، مخرجة الفيلم الوثائقي: “المختفون قسرياً في سوريا” الذي صدر في عام 2016.
لقد أثارت النشاطات التي قام بها مازن في سوريا بوصفه متظاهراً ومواطناً صحفياً أخذ يتحدث إلى المحطات الإخبارية الأجنبية انتباه قوات النظام إليه، تلك القوات التي تلقت تعليمات تقضي باعتقال أي شخص يثبت دعمه للثورة. وهكذا تم اعتقال وسجن الآلاف من الأشخاص الذين شاركوا في المظاهرات السلمية والهدف من ذلك إخماد روح الثورة التي لم يتوقع أحد قيامها في تلك البلاد التي روضها النظام القمعي لعقود من الزمان.
تسبب ذلك باعتقال مازن مرتين ولكن لفترات قصيرة في مدينته دير الزور، قبل انتقاله إلى دمشق في عام 2012، حيث اعتقل هناك مجدداً وعلى الفور، ونقل إلى مقر المخابرات الجوية المخيف في حي المزة، وهناك بدأ الكابوس الذي عاشه.
التصعيد نحو الحرب
تعرضت الثورات التي قامت في عام 2011 في مختلف أنحاء الشرق الأوسط للسحق أو الإخضاع أو تغير المسار، حيث تم إطلاق النار على المتظاهرين، وحبس الناشطين وتعذيبهم، وهكذا ترتبت نتائج عكسية على لحظة الأمل التي عاشتها هذه المنطقة التي يحكمها مستبدون منذ فترة طويلة، بل إن الطغاة أحكموا قبضتهم على العالم العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إلا أن كل البلاد لم تعش ما عاشته سوريا من معاناة، حيث تسبب رد فعل الأسد العنيف تجاه الثورة بظهور دوامة من العنف اجتاحت البلاد التي دخلت أكثر حرب دموية خلال القرن الحادي والعشرين، حيث قامت قوات الأمن بحصد المتظاهرين السلميين واستئصال شأفتهم عبر نيران الرشاشات، وعندما حمل المتظاهرون السلاح وردوا عليهم بالمثل، أتى الجيش بالدبابات والمدفعية التي قصفت المدن والقرى الثائرة بهدف إخضاعها، وبما أن ذلك لم يجد نفعاً، فقد أتت الطائرات الحربية لتسقط براميل متفجرة دمرت أبنية سكنية بكاملها. ومع فشل الغارات الجوية في تحقيق غايتها، استخدمت الأسلحة الكيماوية ضد المجتمعات المتمردة، وذلك بحسب ما أوردته هيئة الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية.
ثم توقفت الأمم المتحدة عن عد الموتى في عام 2014 بعدما بلغ العدد 400 ألف شخص، كما هرب ستة ملايين شخص من بلدهم، وعبروا الحدود إلى دول الجوار، في حين ما يزال خمسة ملايين نازح يرزحون تحت وطأة ظروف معاشية قاسية، ناهيك عن مليون شخص ركبوا قوارب هشة وعبروا بها المتوسط وصولاً إلى أوروبا، كان بينهم مازن، الذي بدأ رحلته من تركيا إلى اليونان، فإيطاليا، ثم فرنسا، وأخيراً هولندا.
وبعيداً عن عدسات كاميرات المحطات التلفزيونية، تم سوق الآلاف ممن شاركوا في الاحتجاجات إلى معسكرات الاعتقال السورية بطريقة ممنهجة.
ومن بين 145 ألفاً اعتقلوا خلال شهر أيلول من عام 2019، هنالك 128 ألف شخص (أي حوالي 90%) منهم اعتقلهم النظام السوري، بحسب ما أوردته الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي توثق كل حالة اعتقال، في حين اختفى 83 ألفاً دون أن يتركوا أي أثر.
ويعتقد أن معظمهم ماتوا تحت التعذيب أو قتلوا ضمن الإعدامات الميدانية التي وثقتها المنظمات الحقوقية. وقد وصفت منظمة العفو الدولية عمليات القتل بأنها: “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” وقد أجيزت من قبل النظام السوري “على أعلى المستويات”.
بيد أن النظام لم يرد على طلبنا للتعليق عن انتهاكات حقوق الإنسان وعن مكان مازن حمادة.
“لن أرتاح”
بعد وصوله إلى هولندا في عام 2014، انهمك مازن بفضح ونشر فظائع منظومة السجون في سوريا، حيث تواصل مع منظمات دفاع سورية وسافر إلى مختلف أنحاء أوروبا والولايات المتحدة ليروي تجربته مع تلك المنظومة، كما تحدث إلى صناع القرار في واشنطن وإلى جنرالات في القيادة الأميركية الوسطى بفلوريدا، وإلى طلاب جامعة برينستون، وإلى محققين في مجال حقوق الإنسان، وإلى كثير من الصحفيين.
وصف مازن لكل هؤلاء كيف حفرت السلاسل التي استخدمت لتعليقه من السقف أخاديد في معصميه، وكيف كسر الحراس أضلاعه عندما قفزوا فوق جسده، وكيف أحرقوا جلده بأعقاب السجائر، وكيف كان جسمه يهتز بفعل الصعقات الكهربائية. وعندما كان يصل للحديث عن المشبك الذي وضعوه على عضوه الذكري وكيف تم اغتصابه بواسطة عصا معدنية في ذات الوقت، كان ينهار دوماً، وهذا ما دفع جمهوره في كل مرة للبكاء أيضاً.
وفي تلك اللحظة من التحقيقات استسلم لهم، حيث اعترف لواشنطن بوست في عام 2017 وقال: “عندما بدؤوا بتحريك العصا اعترفت بكل شيء طلبوه مني”.
كان مصمماً على محاسبة النظام السوري على ما اقترفه، ليس فقط من أجل ما تعرض هو له، بل من أجل أولئك الذين رآهم يموتون في السجن أمام عينيه.
أخذت الدموع تنهال كأنهار من عينيه وهو يقول في الفيلم الوثائقي: (المختفون قسرياً في سوريا): “لن أرتاح حتى أراهم إلى المحكمة، حتى ولو دفعت حياتي ثمناً لذلك. سألاحقهم وأحاكمهم، مهما كلفني ذلك”.
دموع كالأنهار
تسببت الدموع الغزيرة التي ذرفها مازن بصدمة لكل من التقى به، وعلى رأسهم عمر أبو ليلى، وهو شاب ديري يعيش في ألمانيا، كان يتواصل مع مازن عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متكرر إلى جانب حضوره لمؤتمر برفقته في عام 2018، وعنه يقول: “أتذكر أنه بكى على المنصة، وعندما خرجنا للاستراحة بكى أيضاً. إن أول شيء بوسعك أن تلاحظه عن مازن هو كثرة بكائه، فهو يتحدث ودموعه تتدفق كالأنهار”.
إلا أن غزارة دموعه اعتبرت دليلاً على تردي حالته النفسية والعقلية، إذ بعيداً عن أعين العامة، لم تكن حياته تسير على ما يرام، فقد كان يعيش بمفرده في شقة محدودة الأثاث بأمستردام قدمتها له الحكومة الهولندية. كان يحضر دروساً باللغة الهولندية، لكنه كان يعاني في تعلم تلك اللغة. وقد لاحظ المقربون منه أنه أصبح يدخن الماريجوانا أكثر فأكثر، بما أنها لا تخالف القانون في هولندا، لكنها باهظة الثمن.
كان أصدقاؤه الذين اتبعوا مسارات مماثلة لمساره يعيشون حالة أفضل من حاله، فقد أمضى كرم الحمد وهو لاجئ أيضاً من دير الزور أمضى أكثر من سنة في سجن دمشق، لكنه نجح في ألمانيا، حيث أسس مشروعاً تجارياً، ثم التقى بفتاة وتزوجها، وخلال هذا الصيف سيبدأ بالدراسة في منحة مقدمة من جامعة ييل.
ويخبرنا كرم بأنه لم يتغلب على الصدمة دون علاج مكثف ومضادات اكتئاب ودعم تلقاه من عائلته وأصدقائه. وبالمقابل، حصل مازن على العلاج في هولندا، لكنه اشتكى لكرم من المعالجين الغربيين الذين لا يتفهمون المعاناة التي عاشها السوريون.
وبالرغم من مرور ست سنوات على إطلاق سراحه، إلا أن مازن لم يستطع التخلي عن عقدة الناجي وإحساسه بالذنب، تلك العقدة التي يحس بها الكثير ممن تجاوزوا مرحلة الصدمة بحسب رأي كرم. إذ خلال آخر لقاء جمعهما في برلين قبل عودة مازن إلى سوريا بفترة قصيرة، يتذكر كرم كيف كان مازن شديد العصبية والانفعال، حيث أخذ يتحدث عن مصير السجناء الذين تركهم وراءه، وكيف كان يحس بأنه مجبر على القيام بشيء ما لإنقاذهم.
ويصف لنا كرم طريقة كلام مازن وحديثه الذي يعبر بشكل واضح عن إحساسه بالضياع فيقول: “كان ضعيفاً، ولهذا سألت نفسي: متى سينتحر هذا الشاب؟ وذلك لأني شعرت أنه لم يكن يفصل بينه وبين الانتحار سوى شعرة”.
أما عمر الشغري الذي أمضى ثلاث سنوات وهو يتعذب في سجون الأسد قبل أن يسافر إلى السويد، فقد التقى بمازن خلال الزيارات التي قام بها كلاهما للولايات المتحدة. وقد حقق عمر نجاحاً منذ أن وصل إلى أوروبا في عام 2015 عندما لم يكن عمره يتجاوز العشرين، حيث تعلم ثلاث لغات، كما أنه سيبدأ الدراسة خلال هذه السنة للحصول على شهادة جامعية من جامعة جورج تاون.
وعن ذلك يقول عمر بأن تلك الفرصة ألهمته ليبدأ حياة جديدة، أما مازن الذي يكبره بعشرين عام تقريباً، فقد بدا عاجزاً عن تحقيق أي تقدم، وعنه يخبرنا عمر فيقول: “استعنت بالصدمة التي تعرضت لها كدافع محرك، أما مازن فقد اعتمد على صدمته ليزيد من اكتئابه أكثر فأكثر. إذ بالنسبة لمازن كانت كل الأمور تسير نحو الأسوأ، ولهذا انعزل وبقي وحيداً، إذ عزل نفسه لأنه شعر بعدم وجود من يهتم بأمره”.
“أريد أن أعود”
لقد زادت المصاعب التي عاشها مازن بسبب عدم وصول قضيته إلى حل، حيث واصلت قوات النظام استرجاعها لمساحات شاسعة من البلاد بعدما كانت بيد الثوار طيلة السنوات الأولى للحرب. كما أن صناع القرار في الدول الغربية الذين تأمل منهم أن يؤثروا على مجرى الأمور، ركزوا بشكل أكبر على محاربة تنظيم الدولة أكثر من مناهضتهم لتمسك الأسد بالسلطة.
وهكذا أخذ مازن يشتكي أكثر فأكثر إلى أصدقائه من أن سرده لقصته لم يكن سوى مضيعة للوقت، كما أن الدموع التي ذرفها الجمهور لم تترجم إلى جهود ملموسة للانتصار للضحايا. ولهذا أحس بضغط كبير واستغلال من قبل المنظمات التي دعته للظهور في مناسباتها.
وبما أنه عربي من محافظة دير الزور ذات الغالبية العربية، لذا فقد بدأ يشتكي أيضاً من تمدد القوات الكردية في تلك المنطقة بما أنها كانت تتعاون مع الجيش الأميركي على دحر تنظيم الدولة.
وفي بث مباشر عبر صفحته على فيس بوك ظهر فيه مشتت الذهن وشديد الانفعال في عام 2017، عبر مازن عن كل ما يقاسيه من مرارة، كما صب جام غضبه على السلطات الهولندية التي جمدت حسابه المصرفي وقطعت عنه المساعدات بعدما قبل بالحصول على راتب متأخر من قبل الشركة التي عمل معها في سوريا، إذ يعتبر ذلك خرقاً للقوانين المفروضة على اللاجئين. وقد وجه أيضاً انتقاداته للولايات المتحدة وأوروبا بسبب إرسالهما للطائرات الحربية التي تقوم بقصف تنظيم الدولة.
وعن ذلك قال وهو يبكي ويمسح دموعه بمنديل ورقي: “أريد أن أعود إلى بلدي..يكفي، حتى لو كان ذلك يعني العودة إلى مناطق النظام، لأن ذلك أفضل من البقاء هنا. لا أريد أن أندمج! الأكرم لي أن أموت في بلدي”.
أدلة دامغة
إن حالة الإحباط التي عاشها مازن هي ذاتها التي يعيشها الكثير ممن أطلقوا حملات -دون أن يحققوا أي نتيجة تذكر- لتوجيه تهمة ارتكاب نظام الأسد لجرائم حرب، وذلك بحسب رأي ستيفن راب الذي يقوم بإجراء تحقيقات في جرائم الحرب بسوريا منذ أن كان سفيراً للعدالة الجنائية الدولية أيام إدارة أوباما، إلى أن أصبح منذ مدة قريبة أحد الأعضاء رفيعي المستوى في متحف تذكاري مخصص لضحايا الهولوكوست. وقد التقى هذا الرجل بمازن في مناسبات عديدة ووجد شهادته مقنعة ومؤثرة للغاية. وكغيره، يتذكر السيد راب الدموع التي خنقها مازن وهو يروي قصته.
ولقد قام المحققون بجمع أكوام من الأدلة التوثيقية لجرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري، ويشمل ذلك صوراً لجثث 55 ألف ضحية تعذيب تم تهريبها من سوريا على يد المنشق الذي يحمل الاسم الحركي: قيصر، إلى جانب أكثر من 600 ألف وثيقة حول الأساليب التي اتبعها النظام لقمع الثورة، وتشمل تلك الوثائق مذكرة اعتقال بحق مازن مؤرخة في 2012، وذلك لمشاركته في المظاهرات حسبما أورد السيد راب، الذي علق على ذلك قائلاً: “هنالك أدلة دامغة وإثباتات حول جرائم الحرب التي ارتكبها النظام، وبعد كل ذلك لم تشاهد أي دولة في العالم تقوم برفع تلك الأدلة إلى محكمة، بالرغم من الفظائع التي حدثت لك ولأصدقائك ولبلادك، أي أنه من الصعب ألا تحس بالإحباط بعد كل هذا، لأنني أشعر بذلك كل يوم”.
إن الحكم الذي صدر في ألمانيا خلال الأسبوع الماضي بحق مسؤول سابق في المخابرات السورية اتهم باعتقال المتظاهرين اعتمد على شهادة أدلى بها شاهد عيان كتلك التي قدمها مازن حمادة. فإذا تم الأخذ بالاتهامات التي تتصل بجرائم الحرب ضد الأشخاص المرتبطين بفرع المخابرات الجوية حيث اعتقل مازن، أو في مشفى 601 العسكري حيث كان مازن شاهداً على بعض الفظائع المروعة، عندها سيصبح مازن شاهداً مهماً للغاية حسب رأي السيد راب.
إلا أن الوقائع على الأرض تدفع المرء لاستبعاد محاسبة شخصيات رفيعة من النظام في سوريا، بحسب رأي جيفري فيلتمان، وهو معاون سابق لوزير الخارجية الأميركي بالنسبة لشؤون الشرق الأدنى، والذي أصبح الآن عضواً زائراً لدى معهد بروكينغز، وصار يدافع عن توجه جديد بالنسبة للسياسة في سوريا، بعدما توقع احتمال بقاء نظام الأسد في المستقبل المنظور، وعن ذلك يقول: “يستحق الأسد أن يمثل أمام محكمة في لاهاي أو أمام محكمة دولية، كما يستحق أن يحاكم في لاهاي..هل سيحصل ذلك؟ كلا لن يحصل”، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن روسيا التي تعتبر أقوى حلفاء الأسد، تعرقل أي محاولة يقوم بها مجلس الأمن الدولي لإنشاء محكمة دولية.
“حالة نفسية سيئة”
خلال الأشهر الأخيرة من عام 2019، وصلت مشكلات مازن المالية إلى ذروتها، فلم يعد بوسعه دفع إيجار بيته، كما تم إخراجه من الشقة التي يقيم فيها، فسكن مع شقيقته وزوجها بما أنهما كانا يقيمان في أمستردام أيضاً. ويخبرنا صهره عامر العبيد بأن تجربة الذل التي ذاقها مازن عندما خسر بيته زادت من إحساسه بالمرارة، كما لعبت الدور الأكبر في اتخاذه لقرار العودة إلى سوريا، ويعقب على ذلك بالقول: “لقد أحس مازن بالخيانة، كما كان في حالة نفسية سيئة”، إذ أصبح مازن نكد المزاج مستعداً للشجار دوماً مع أي شخص يلتقي به، ولهذا أصبح يقول للناشطين المعارضين من أصدقائه: “أجد النظام أفضل منكم ومن أمثالكم”، وعن ذلك يقول صهره: “لقد بلغت به الأمور إلى فقدان الثقة بالكثير من الناس”.
أقام مازن أيضاً مع ابن أخيه زياد الحمادة لبضعة أسابيع، بما أن الأخير يقيم في مدينة بغرب ألمانيا، وهناك أمضى مازن ساعات وهو يحدثه عن التعذيب الذي تعرض له قبل ست سنوات.
وهكذا عرف زياد للمرة الأولى بأن العضو الجنسي لعمه قد تضرر بفعل التعذيب بشكل كبير، لدرجة لم يوردها في أي حديث أعلنه على الملأ. فقد التقى زياد بامرأة اعتقد أنها تناسب مازن، واقترح عليهما فتح زجاجة ويسكي للاحتفال بزواجهما المرتقب، فرفض مازن ذلك، وجن جنونه، ثم شرح له السبب، حيث أخبر زياد بأنه كان يتمنى أن ينجب أطفالاً لكنه لم يعد قادراً على ذلك، ثم بكى وهو يروي له ما حدث، وبعدها سمح لزياد برؤية الضرر الذي تعرض له في الحمام، وهناك بكى مجدداً، وعن ذلك يخبرنا زياد فيقول: “كان يبكي في كل الليالي التي أمضيناها سوية، وكان التعذيب هو الموضوع الوحيد الذي يتحدث عنه”.
العالم لم يسمع
في صبيحة يوم 22 شباط من العام 2020، قام لاجئ سوري في ألمانيا بنقل صديق له بسيارته إلى مطار شونيفيلد ببرلين حتى يسافر إلى بيروت ومنها إلى دمشق. وكان من بين من صعدوا على متن تلك الطائرة مازن الحمادة الذي لم يتعرف عليه إلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وظهوره في المناسبات كناشط حسبما ذكر ذلك الشاب الذي تحدث شريطة ألا يتم الكشف عن اسمه لأنه يخاف على أمن أهله المقيمين في سوريا.
وبما أنه لم يصدق بأن هذا الشخص المعروف الذي انتقد النظام في سوريا كثيراً يمكن أن يسافر في تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، اقترب هذا الرجل من مازن وسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ فتهرب مازن من الإجابة، ثم اتخذ موقفاً دفاعياً، وأنكر سفره إلى سوريا حسبما يخبرنا ذلك الشاب الذي قال: “بدا جسده منهكاً كلياً، كما ظهر بمظهر الحزين العليل، ولم يكن يتحدث بما هو لائق، لذا كان بوسع أي شخص أن يكتشف بأنه لم يكن على ما يرام”.
وبما أن هذا الشاب انزعج لما رآه، لذا اتصل بصديقة له اسمها ميسون بيرقدار وهي ناشطة سورية معروفة تقيم في ألمانيا منذ 27 عاماً واشتهرت بحلها لهذا النوع من المشكلات، ولهذا تعقبت معارف مازن ووصلت إليه ولكن بعد وصوله إلى بيروت، بيد أن محادثتهما المسجلة تكشف الكثير من الأمور، إذ فيها قال مازن لميسون: “ذهبنا إلى أميركا وأخبرناهم بكامل القصة، وسافرنا إلى ألمانيا وأخبرناهم بكامل القصة، وسافرنا إلى هولندا وفرنسا بل حتى إيطاليا، لم يصغ الناس لنا، بل كل العالم لم يسمعنا”.
ثم تحول إحباطه لغضب، فأكد لها بأن دمشق وجهته بالفعل، وذكر لها بأنه تعب من محاولته إقناع العالم بالوقوف ضد الأسد، وبأنه يرغب بإيجاد السبل الكفيلة بالتوصل إلى حل سياسي للحرب، كما أخبرها بأنه يرغب بطرد الكرد والأميركان الذين اتهمهم باحتلال المحافظة التي ينتمي إليها، إلى جانب السعي لإطلاق سراح السجناء السياسيين الآخرين، وذكر بأنه على استعداد للتضحية بنفسه لوقف حمام الدم المستمر.
وبعدما توسلت إليه ميسون حتى لا يسافر، أخبرته بأن الاحتمال الأرجح هو أن يعتقل ويتعرض للتعذيب من جديد، بدلاً من أن يتم الترحيب به كمصلح يسعى نحو السلام وذلك من قبل النظام الذي سبق له أن انتقده على العلن، فما كان منه إلا أن رد عليها بالقول: “سنموت على أية حال”.
قضايا وقرائن
إن أقارب مازن وأصدقاءه على قناعة كاملة بأن مؤيدين للنظام قاموا بإقناعه ليعود، وهدفهم من ذلك إسكاته ومنعه من الإدلاء بشهادته حول الفظائع والجرائم التي اقترفها النظام. ولكن ليس ثمة أي دليل على ذلك بحسب اعترافهم، سوى ما ذكروه حول اختفاء مازن بشكل مريب في فترات التقى خلالها بأصدقاء له دون أن يذكر أسماءهم، فضلاً عن ثقته الواضحة التي بدت في محادثاته الأخيرة، بأن أحداً لن يمسه بسوء في حال عودته.
يذكر أن مازن زار السفارة السورية في برلين ثلاث مرات على الأقل قبل شهر من رحيله بحسب ما ذكره صديق العائلة الذي أقام معه إبراهيم أسود خلف الله، حيث أخبره مازن بأنهم أكدوا له بأن اسمه غير موجود على قائمة المطلوبين في سوريا.
هذا وقد صدر تقرير خلال العام المنصرم من قبل شركة محاماة بلندن، وتم توزيعه على أربع وكالات حقوقية تابعة للأمم المتحدة وحمل هذا التقرير النظام السوري مسؤولية الاختفاء القسري لمازن بعد وصوله إلى دمشق، كما طالب الأمم المتحدة بالمساعدة في معرفة مكان مازن، مستشهداً بمنشور على فيس بوك ذكر أن صهره شاهده وورد فيه بأن امرأة تعمل لدى السفارة السورية قامت بمرافقة مازن إلى مطار برلين. فإذا كان موظفون لدى النظام السوري أو موالون له قد لعبوا دوراً في عودة مازن ومن ثم اعتقاله، عندها ستوجه لهم تهمة الاختطاف، بحسب ما ذكره المحامي توبي كادمان من شركة المحاماة تلك.
ومنذ وقوع تلك الحادثة انتشرت شائعات حول اعتقال مازن واحتجازه في عدة سجون، أو حول وفاته في السجن، غير أن كل تلك الشائعات بقيت بلا تأكيد بحسب ما ذكره معاذ مصطفى المدير التنفيذي لدى فرقة العمل السورية للطوارئ في واشنطن، الذي قام بتنظيم زيارات لمازن إلى الولايات المتحدة وأصبح صديقاً له. إلا أنه بالرغم من كل ما حدث يعتقد بأن مازن أغري بوعود كاذبة أكدت له أنه سيكون بأمان، فقط حتى يقتادوه للسجن، وعن ذلك يقول معاذ: “اكتشف أشخاص موالون للنظام ضعفه فاستغلوه، وجعلوه يتواصل مع السفارة، ويبدو أن السفارة وعدته بشيء ما، ولهذا أدرك في نهاية الأمر عندما وصل إلى مكتب تفتيش الجوازات بأنه مطلوب للتحقيق، ما يعني عودته إلى الثقب الأسود”.
هل كان مازن يعي بأنه يعرض نفسه للخطر؟ يبدو من خلال مكالمتين هاتفيتين تلقاهما بعد وصوله إلى مطار دمشق بأنه كان يدرك ذلك فعلاً، لكنه أدرك ذلك الخطر متأخراً.
كانت المكالمة الأولى من ابن أخيه زياد الذي تواصل معه بعد وصوله إلى دمشق بفترة قصيرة. كان صوت مازن يرتجف وأسنانه تصطك حسبما يذكر زياد، ويبدو أن هنالك شخصاً بجانبه يلقنه ما يجب أن يقوله، حيث يقول زياد: “كان ذلك واضحاً تماماً، إذ سمعت أحدهم يقول له: تكلم.. تكلم! وسمعت أشخاصاً بجانبه يقولون له: قل هذا.. قل ذاك”.
وفي تلك المكالمة، ذكر مازن بأن موظفي الهجرة في المطار أخبروه أنه يمكن أن يعتقل على ذمة التحقيق في حال دخوله إلى البلد، كما ذكر أنه يحاول أن يجد بطاقة سفر بالطائرة على الرحلة المقبلة، وكانت وجهتها إلى السودان، فشجعه زياد على السفر في تلك الرحلة، وعندها قال له مازن قبل أن ينقطع الخط: “ادع لي يا ابن أخي العزيز.. ادع لي”.
وبعد ثوان اتصل مازن بصديقة أميركية في الولايات المتحدة، وهي نتاليا لاريسون مديرة المساعدات الإنسانية لدى فرقة العمل السورية للطوارئ، غير أنها لا تتكلم العربية، ولهذا لم تفهم ما الذي كان مازن يقوله لها عندما كان في مطار دمشق، إلا أنها أحست بوجود شخص بالقرب منه أخذ يلقنه ما يقول، وكان بوسعها أن تسمع أنفاس ذلك الرجل الذي كان يعطي مازن تعليمات وأوامر قبل أن يتحدث.
بعد ذلك أنهى مازن المحادثة، وذكرت لاريسون بأنها حاولت أن تتواصل معه عدة مرات عبر تطبيق واتساب الذي كانا يستخدمانه للتواصل بينهما، إلا أنه لم يرد.
وبعد مرور أقل من ثلاث ساعات، أصبح حسابه غير متصل بالشابكة، وكذلك كل حساباته الأخرى على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يعد أي منها نشطاً منذ تلك اللحظة.