هناك معارك تظلّ حاضرةً في الأذهان حتّى بعد مرور عقود أو قرون عليها. ومن ضمن هذه المعارك معركة اجينكورت، ففي هذه المعركة تغلّب 6 آلاف جندي إنجليزي مُعدَم على أكثر من 20 ألف فرنسي. وليس هذا فقط بل إنّ الذي تسبب حقيقةً في هذا الانتصار الإنجليزي على القوات الفرنسية المدججة بالسلاح كان خليطاً من الصدفة والعنجهيّة العسكرية في آن واحد، وفق ما يخبرنا إريك دورتشميد في كتابه “دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ”.
كيف؟ سنشرح بالتفصيل الآن، ولكن قبل أن ندخل في تفاصيل المعركة علينا أن نشرح سريعاً السياق العام لهذه المعركة المفاجئة، التي تعتبر أوّل مسمار يضرب في نعش “تقاليد الفروسية” للعصور الوسطى الأوروبية، بسبب تلك المذبحة التي ارتكبها الملك الإنجليزي قبيل انتهاء المعركة.
حرب المئة عام بين فرنسا وإنجلترا
نشأت هذه الحرب المستمرة طيلة 116 عاماً من الزمان بين فرنسا وإنجلترا، لمطالبة إنجلترا بالعرش الفرنسي. ويرجع بعض المؤرخين هذه الحرب إلى ثلاثة قرون وليس إلى قرنٍ واحد. وبالطبع لم تكن هذه الحرب مستمرة، فقد تخللتها فترات سلام أيضاً وهدنة.
كانت فرنسا في بدايات القرن الرابع عشر هي الأكبر سكاناً في أوروبا، ففي نهاية هذا القرن كان التعداد السكاني في فرنسا 14 مليوناً، بينما كان التعداد السكاني في إنجلترا 4 ملايين فقط.
بعد وفاة لويس العاشر، ملك فرنسا، عام 1316، وجدت فرنسا نفسها فيما يشبه الأزمة الدستورية، فلم يكن لدى لويس العاشر أبناء، وترك فقط ابنةً صغيرة لا يمكن تنصيبها ملكة.
وهكذا نصّب أخوه نفسه ملكاً على العرش، وسنّ قانوناً يمنع النساء من حكم فرنسا، وهكذا أصبحت وراثة العرش الفرنسي مرتبطة بالورثة الذكور فقط.
وفي إحدى فترات القرن الرابع عشر لم يعد هناك ذكور فرنسيون ليحكموا، فطالب إدوارد الثالث إنجلترا بالعرش الفرنسي، على اعتبار أنّه من العائلة الفرنسية الحاكمة من طرف أمّه.
لكنّ هناك أسباباً أخرى أيضاً لتلك الحرب، فقد كان بعض ملوك إنجلترا يمتلكون أراضي داخل الحدود الفرنسية، ما يجعل هذه الأراضي تخضع للملك الفرنسي قانونياً، ولكنها مِلك مَلك إنجلترا، وهكذا أصبح هناك نوع من التبعية أحياناً بين العرشين الإنجليزي والفرنسي، إما بتبعية فرنسية أو تبعية من قبل إنجلترا.
عندما توفي هنري الرابع ملك إنجلترا عام 1413 واعتلى ابنه الشاب هنري الخامس العرش، كان يمتلك طموحاً ضخماً. جمع جيشاً مكوناً من 6000 جندي، وغزا الشمال الفرنسي ليطالب بأحقيته في عرش فرنسا.
معركة اجينكورت.. الطموح الإنجليزي الذي كاد أن ينتهي بكارثة
استطاع هنري الخامس الطَّموح أن يستولي على بعض مناطق الشمال الفرنسي وهو في طريق عودته، وقبل يومٍ واحد فقط يفصله عن قلعته الرئيسية في الشمال الفرنسي، فوجئ هنري الخامس بجيشٍ فرنسيٍّ ضخم يلاحقه.
كان هذا السيناريو كارثيّاً جداً بالنسبة لهنري الخامس، فجيشه مكوّن من 1000 فارس فقط بينما فرسان الفرنسيين يتجاوزون 8 آلاف، ومجموع جنوده المشاة ورماة السهام 5 آلاف، بينما يزيدون عن 10 آلاف في الجيش الفرنسي.
كان هناك عامل سلبي وحيد في الجيش الفرنسي، وهو أنّ قيادة الجيش منقسمة بشكل كبير. فالجيش مكوّن من فرسان ومشاة تابعين للنبلاء والإقطاعيين، وهم تابعون لقادتهم مباشرةً، وهكذا غابت عن الجيش الفرنسي القيادة الموحّدة.
كان القائد العام للجيش الفرنسي هو الضابط والنبيل تشارلز ديلبرت، وقد غيّر ديلبرت موقع معسكره ثلاث مراتٍ في اليوم السابق للمعركة. ووقع اختياره في النهاية على سهلٍ زراعيّ عرضه نصف ميل، وقد حرثه مؤخراً فلاحو المنطقة، ليجهِّزوه للزرع الشتوي.
كانت خطّة ديلبرت هي الهجوم على جبهتين، هجومٍ كاسح وسريع. الأوّل يقوده دوق ألينسون بـ600 فارس، بينما سيهاجم ديلبرت بنفسه ميمنة الجيش، لكنّه لم يتخيّل أبداً -ولو في أحلامه- أنّ هذا السهل الزراعي الخصب الذي اختاره أخيراً سيكون موطن مذبحة ضخمة لأكثر من عشرة آلاف من فرسانه جيدي التدريب.
على الجبهة الأخرى.. هنري الخامس يجهّز نفسه للموت
على الجانب الآخر، كان هناك هنري الخامس، الشاب الطموح ذو الـ38 عاماً، الذي جاء لفرنسا أصلاً للمطالبة بأحقيّته في العرش الفرنسي، لكنّ هنري كان لديه ميزة واحدة فقط: رماة الأسهم الإنجليز، كانت شهرتهم واسعة في كل أوروبا، بأقواسهم الإنجليزية الواسعة، وتدريبهم العالي.
جهّز رماة الأسهم الإنجليز أنفسهم، وضعوا جذوع الأشجار أمامهم ليصدوا بها هجمات الفرسان الفرنسيين.
اصطفّ الجيشان يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول عام 1415، ولكن في المساء السابق حدث ما لم يكن في الحسبان، لقد أمطرت السماء بغزارة، فصارت الأرض طينيّة، وسيُفِقد هذا الأمر القوة الفرنسية ميزتها. فميزة الجيش الفرنسي في فرسانه الأقوياء المدججين بالسلاح، بدروعهم الفولاذية التي يزن الواحد منها قرابة 28 كيلوغراماً.
وهكذا، قرّر القائد الفرنسي المحنّك تشارلز ديلبرت أنّ الوقت غير مناسب للهجوم، لكنّ النبلاء والقادة المختلفين داخلياً والمتنافسين رفضوا التراجع، وقرروا أنّهم يجب أن يبيدوا هذا الجيش من “الرعاع الإنجليز”.
وقبيل بدء المعركة يبدو أنّ هنري قد أمر بخطةٍ بسيطة لاستفزاز الجيش الفرنسي. تسلل بعض رماة الأسهم وضربوا ضربة استباقية سريعة داخل الجيش الفرنسي، ليستفزّ ذلك الفرسان الفرنسيين الباحثين عن المجد. وهكذا ومن دون أمرٍ من القائد هاجم الفرسان الفرنسيون الجيش الإنجليزي هجوماً واحداً يقضي عليه.
لكنّ الخيول لم تستطع أن تهجم بسرعتها المعتادة بسبب الأرض الطينية تحتها، خصوصاً مع الأوزان الضخمة للدروع الفولاذية للفرسان. وبينما الفرسان الفرنسيون في منتصف الطريق للجيش الإنجليزي، بدأ النبالة الإنجليز في اقتناصهم هم وخيولهم بالسهام الإنجليزية ذات الأقواس الواسعة، شديدة الشهرة.
تعرقل الفرسان الفرنسيون، وقتل الكثير منهم، بل وأعاقوا الموجات الأخرى المُهَاجِمة من الجيش الفرنسي، سواءٌ من المشاة أو من الفرسان.
ولم يلتحم الجيش الإنجليزي حتى الآن. فقط تركوا لأقواسهم وسهامهم مهمّة القضاء على الفرسان الفرنسيين. وعندما قضي الأمر، كان العديد من النبلاء وقادة الفرسان الفرنسيين قد قتلوا بين الوحل والطين والأسهم الإنجليزية.
استغرقت هذه المعركة 15 دقيقة فقط تقريباً. فقد أعاقت جثث الفرسان المتراكمة بقية الجيش الفرنسي، وبدأ المشاة الإنجليز ينزلون أرض المعركة فقط لأخذ الأسرى والغنائم.
ورغم ذلك، كاد نصر معركة اجينكورت ينقلب إلى هزيمة
رغم أنّ الصدفة ساعدت هنري الخامس بأن أمطرت السماء في اليوم السابق للمعركة، ورغم استفادته الكبيرة من حماسة واندفاع الفرسان الفرنسيين واختلاف قيادتهم فيما بنيهم، بل وما يمكن أن يطلق عليه “الغباء العسكري” لبعض القادة الفرنسيين، فإنّ المعركة كادت تنتهي بطريقةٍ تراجيدية أخرى.
أسر الجيش الإنجليزي قرابة 1500 فارس فرنسي، وأمر هنري الخامس أن يساق هؤلاء الأسرى إلى مؤخرة الجيش. وبالطبع لكي يسوق 1500 أسير فعليه أن يوفر لهم من يحرسهم ويقودهم إلى مؤخرة الجيش. وفي تلك اللحظة التي انقسم فيها جيش هنري للحفاظ على الأسرى، استطاعت فرقة من الفرسان الفرنسيين اختراق الدرع الذي بناه رماة الأسهم الإنجليز من جذوع الأشجار، بل ووصل بعض الفرنسيين إلى الملك هنري الخامس وقاتلوه، وكاد أن يقتل في إحدى هذه الهجمات.
كادت أن تكون أعداد الجيش الفرنسي عاملاً حاسماً مرة أخرى في المعركة، وفي تلك اللحظة، لكي يستدعي هنري بقية جيشه من المؤخرة ليقاتل الجيش الفرنسي الذي هاجمه من الأمام، خاف أن يستدعي جنوده من الخلف فيهبّ الأسرى ويهجموا على جيشه من الخلف بينما يقود زملاؤهم الهجوم من الأمام.
وهنا أمر الملك الإنجليزي أمراً سيظلّ يذكره التاريخ الأوروبي بسببه، فقد أمر أن يقتل جنوده كلّ الأسرى الفرنسيين العزّل، على العكس من كلّ قواعد الفروسية والشرف المتّبَعَة في ذلك العصر!
رفض الفرسان الإنجليز تطبيق أوامر هنري الخامس، فهذه الفعلة ستجعلهم يخسرون تماماً شرف الفروسيّة الذي تربوا عليه. وهنا أمر هنري الثامن فرقة رماة الأسهم (باعتبارهم لا ينتمون لتقليد الفروسية) أن يجهزوا على الألف وخمس مئة أسير فرنسي في مؤخرة الجيش.
كان هذا الأمر الذي أصدره في الحقيقة آخر كروت هنري الثامن لكي ينجو من الموت، كلّفه ذلك خسارته شرف الفروسية، لكنّ قتل الأسرى على مرأى من زملائهم المهاجمين كان خطوةً ذكية لاستعادة جنوده إلى جانبه، إضافةً إلى أنّه جعل المهاجمين يتقهقرون عندما وجدوا أنّه لن يتوانى عن الأمر بمذبحة تخالف كل قوانين الفروسية المتّبعة.
انتهت المعركة في 4 ساعات، لكنّ النصر الأوّلي الذي حسمها استغرق فقط 15 دقيقة.
وهكذا فاز هنري الثامن في النهاية، بعدما قتل جيشه الصغير 10 آلاف جندي فرنسي جيّد التدريب، بسبب الخطّة المحكمة التي وضعها، ولكن بالطبع وقبل كلّ شيء بسبب الصدفة التي جعلت السماء تمطر في الليلة السابقة للمعركة!.