محمود الماضي
بعد أن سيطرت قوى الثورة على ثلثي المساحة السورية، في مطلع عام 2013 ونهاية عام 2014، دخلت قوى أخرى على ساحة الصراع، لا تنتمي للثّورة، متمثّلة بداعش، وميليشيا YPG “وحدات حماية الشعب” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي “ب ي د” ، فتقاسمت هذه القوى مناطق السيطرة، عندها ظهر صراع آخر، غير عسكري هو صراع فكري إيديولوجي، حيث أخذت هذه القوى، تتدخل في المؤسّسة التّعليميّة، وتفرض سياستها، وفكرها على الأجيال، وفق مناهج تعليميّة مؤدلجة تخصّها، وذلك بقوة السلاح، هذا ما تسبّب بإغلاق المدارس، وتسرّب ألاف الطلاب في هذه المناطق.
فقد أقدمت داعش بين عامي 2014 و2015 على فرض مناهج مؤدلجة، باسم ديوان التَعليم، أغلبها موادّ شرعيّة وفقهيّة، تخصّ فكرها، وتحضّ على الجهاد، والعنف، كما أقدمت على طرد أغلب المدرسين، والمعلمين، ذوي الكفاءة، والخبرة، وأتت بمعلمين من داخل التّنظيم، هذا ما زاد من تسرّب الطلاب، نتيجة تخوّف الأهالي من تجنيد أطفالهم، في صفوف التّنظيم، إضافة إلى عدم ثقتهم بهذه المناهج، والاعتراف بها، فأدّى ذلك إلى انهيار التّعليم بالكامل، في مناطق سيطرة داعش.
كما أقدمت ما تسمّى الإدارة الذاتيّة، التّابعة لحزب الاتّحاد الديمقراطي، في عام 2015 على فرض مناهج خاصّة بها، في مناطق سيطرتها، باللّغة الكرديّة، في المراحل الابتدائيّة الأولى، ما دفع النظام للقيام بسحب كافَة كوادر التّعليم، والتّربية في المناطق التي فرضت فيها هذه المناهج، وتسبّب ذلك بإغلاق مئات المدارس، وتسرّب ألاف الطلاب.
قوى المعارضة هي الأخرى أصدرت مناهج خاصة بها، إلّا أنّها اعتمدت مناهج الحكومة السورية، مع إجراء بعض التّعديلات، فيما يخصّ حزب البعث، ثمّ ألغت مادة الثّقافة القوميّة، والتّربية الوطنيّة.
في خضمّ هذه الصراعات، والتّجاذبات على مؤسسات التعليم، والعبث بمستقبل الأجيال، لابدّ لنا أن نتحدّث عن هذه القضيّة التربويّة، التي تعدّ من أخطر ما يواجهه شعبنا، وأجيالنا، حاضراً ومستقبلاً.
المناهج التربوية : المنهاج التّربوي اصطلاحاً: هو المحتوى الدراسي، من علوم، ومعارف، وثقافة، ولغات، وأنشطة صفيّة ولا صفيّة، يقدّم للطلبة في المراحل والمستويات كافة، وتأتي المناهج، عبر مجموعة من الخبرات التّربويّة، التي تهيّئها المؤسّسة التّربويّة لتلاميذها وطلّابها، وفق فلسفة التّربية والتّعليم التي تعتمدها الدولة، بما يتناسب مع ثقافة شعبها وتطلّعاته.
أهميّة المناهج التّربويّة ودورها :
تعدّ مناهج التّربية والتّعليم من أهمّ وأخطر القضايا الوطنيّة للشعوب؛ لأنّها هي التي تحددّ هويّتها، وثقافتها، وسياستها في تنشئة أجيالها، وإعدادهم لتحقيق تطلّعاتها الخاصّة بها؛ فلكلّ شعب خصوصيّته الحضاريّة والثّقافيّة والمجتمعيّة. وكون المناهج التّربويّة هي وسيلة التّطوّر والبقاء للأمم، فهي محكومة بالفلسفة الاجتماعيّة والموروث الثّقافي الذي خلقته حضارة هذا الشعب. لهذا كلّه تولي الحكومات والدول أهمّيّة خاصّة بمناهجها التّربويّة، وتعمل على تطويرها باستمرار، مع الاحتفاظ بخصوصيّة شعوبها.
معاييرها الوطنيّة :
لابدّ أن تكون هناك معايير وطنيّة واجتماعيّة لمناهج التّربية والتّعليم، ويجب الالتزام بها، خصوصاً بعد أن أخذ الصراع العالمي يفتح جبهاتٍ أخرى على صعيد الإعلام والثقافة والمناهج التّربويّة؛ لهذا غدت الشعوب تواجه تحدّياتٍ كبيرةً في ضبط سياساتها التّربويّة، والمحافظة على خصوصيّتها الثّقافيّة والحضاريّة، ولابدّ أن نستذكر في هذا السياق، قول وزير خارجية أمريكا، “كوردل هل”: “إذا أردتَ أن تلغي شعباً، فابدأ بشلّ ذاكرته التاريخيّة، ثمّ شوّه ثقافته، واجعله يتبنّى ثقافةً أخرى غير ثقافته، ولفّق له تاريخاً آخر غير تاريخه، وعلّمه إيّاه، عندئذ ينسى مَنْ هو .. ومَنْ كان.. وتندثر معالم حضارته، وبالتالي ينساه العالم، ويصبح مثل الأمم المنقرضة”.
وتنبّهت كثير من الدول إلى هذا الغزو الثقافي الذي يستهدف شعوبها، فأخذت في مواجهة هذا الغزو، من خلال تحصين سياساتها التّربويّة من الاختراقات الخارجيّة والتّربوية والثقافة الوافدة، وقد أكّد كثير من علماء التَربية والمفكّرين على أنّ “التّربية لا تستورد”
إلّا أنّه من الضرورة بمكان، تبادل الخبرات والمعارف لاكتساب الأجيال العلوم والمهارات التي تساعدهم في النّمو المتكامل لشخصيّاتهم، بغية النهوض بمجتمعاتهم في البناء والتنمية، مع الاحتفاظ بالخصوصيّة الثّقافيّة والعقائديّة والحضاريّة لكلّ شعب، وَفْقَ تطلّعاته واحتياجاته.
الجهة المسؤولة عن مناهج التّعليم والمخوّلة بإنشائها وتغييرها :
حكومة الدولة هي الجهة الوحيدة المخوّلة بإقرار المناهج واعتمادها، وتغييرها وقت الحاجة والضرورة، عبر الوزارة ومؤسسات التّربية ودائرة المناهج، ولا يحقّ لأيّة جهة محلّية، مهما كانت، التدخّل في قضيّة المناهج التّربويّة. حتى الائتلاف السُّوري المعارض الذي حظي باعتراف دولي، اعتمد مناهج التّربية السوريّة في مناطق المعارضة، مع إجراء تعديلات بسيطة، فقط على ما يخصّ حزب البعث والنظام .
مناهج التّعليم التي فرضتها “ب ي د” في شمال وشرق سورية
قبل أن نتحدَّث عن محتوى هذه المناهج، لابدّ أن نذكّر أنّ هذه المناهج من حيث المبدأ هي غير شرعيّة؛ فالجهة التي أصدرتها لا تمتلك أيّ مستند قانوني، وهذا ما تؤكده القاعدة التي يتداولها فقهاء القانون والشرع، “ما بُنِي على باطل فهو باطل”.
أقدمت هيئة التّعليم، بإدارة “ب ي د” على تغيير مناهج التّعليم بالكامل، وفرضت بدلاً عنها مناهج مؤدلجة خاصّة بها، كما استولت على جميع المدارس، في المناطق التي تسيطر عليها وفرضت التّعليم، في المراحل الابتدائيَة الأولى، باللّغة الكرديّة، واللّغة السريانيّة، واللّغة العربيّة، إلّا أنّ الخطورة تكمن في مضمون هذه المناهج.
وألغت إدارة “ب ي د”، مادة الثّقافة القوميّة والوطنيّة، وأقرّت بدلاً عنها مادةً أسمتها “الأمّة الديمقراطيّة”، كما غيّرت مادة التاريخ بالكامل، وضمّنتها بحوثاً عن تاريخ الأكراد، والسريان في المنطقة، وأغفلت التاريخ الأموي، والعباسي، كما تمّ إلغاء مادة التّربية الإسلاميّة، ووُضِعت بدلاً عنها، مادة اسمها “الثّقافة والأخلاق”، ضمنتها بحوثاً تمجّد الطبيعة، وبحوثاً أخرى عن الديانات الوثنيّة القديمة، ركّزت فيها على الديانة الزردشتيّة.
إضافة إلى تغيير مادة الجغرافيا، وتضمينها خرائط لكردستان، شملت شمال سورية، من المالكية إلى المتوسط غرباً، وجنوب وشرق تركيا، وشمال العراق، وغرب إيران، بمصور واحد متّصل، وبحوثاً عن جغرافيا ما يسمَّى “روج آفا” في سورية.
كما أصدرت مادةً جديدةً، هذا العام اسمها “الجنولوجيا” وتعني “علم المرأة”، تتحدّث في أبواب منها عن التّعصّب الجنسي، وأخرى عن التّحرّر الجنسي، وهناك بحوث تتحدّث عن ظلم المرأة في الإسلام، وكيف عزّز الإسلام دور الرجل، وهمّش المرأة.
كما أصدرت مادةً أسمتها “تاريخ الأديان، والمعتقدات”، تتحدّث بحوثها عن الديانات الوثنيّة القديمة، والديانة الزردشتية، والديانات الأخرى، وقد اعتبر كثير من المهتمّين أنّ ذلك نوع من التّبشير بأديان غريبة عن المنطقة.
أضف إلى ذلك البحوث المؤدلجة التي تؤجّج النزعات القوميّة، والنّعرات الطائفيّة في المجتمع، وتلك التي تتحدث عمَّا يسمّى ثورة “روج آفا”، والتي تحضّ على العنف، حيث ضمّنت صوراً لمقاتلات ومقاتلين من “وحدات حماية الشعب”، وجعلت هذه المناهج الشهادة في سورية وقفاً على قتلى “ب ي د”. إضافة إلى البحوث التي تتحدّث عمَّا يسمَّى فلسفة “عبد الله أوجلان”، والأخلاق عنده!. ناهيك عن هشاشة هذه المناهج ورداءة مضمونها، وهذا ما يدلّ على ضعف خبرة وإمكانيّة الكوادر التي وضعتها.
لاقت هذه المناهج رفضاً شعبيّاً عامّاً، كونها قوميّة مؤدلجة من جهة، وكونها غريبة عن ثقافة وتاريخ المنطقة، وعقائدها، وقيمها، ومفاهيمها، من جهة أخرى. ورأى فيها كثير من الأهالي هناك أنّها تستهدف هوية المنطقة، وثقافتها، وحضارتها، على مبدأ نظرية وزير خارجية أمريكا “كوردل هل”، التي ذكرناها آنفاً.
ويتخوَّف أهالي المنطقة على مستقبل أبنائهم، من هذه المناهج التي لا تحظى بأيّ اعتراف، ولا تخوّل شهاداتها دخول الجامعات السُّوريَّة، أو الإقليميّة، ما دفع أهالي القامشلي والحسكة إلى الاحتجاج قبل سنتين، على فرض هذه المناهج، وكذلك أهالي دير الزور في هذا الصيف، إلّا أنّ “ب ي د” ضربت عرض الحائط بكلّ هذه الاحتجاجات، وهذا ما تسبّب بإغلاق مئات المدارس، وتسرّب آلاف الطلاب، ومع بداية العام الدراسي، شهدت المدارس الخاضعة لسيطرة النظام ازدحاماً كبيراً.
وفي بداية شهر أيلول، أبلغت إدارة “ب ي د” مديري المدارس في الحسكة، وجوب التّقيّد بالمناهج التي طبعتها، بما فيها المرحلة الثانويّة، تحت طائلة الاعتقال.
فيما أعلنت مديرة التربية في الحسكة، التابعة للنّظام إلهام صاروخان أنّ إدارة “ب ي د” أغلقت المجمّعات التربويّة، وجميع المدارس التي رفضت مناهجها.
ورغم كلّ المناشدات التي وُجِّهت إلى الأمم المتّحدة، ومنظمة اليونسيف، لتحمّل مسؤولياتها تجاه هذا العبث بمناهج التّعليم، وضياع مستقبل أجيال المنطقة، إلّا أنّها لم تحرّك ساكناً.
فالتّعليم في سورية شبه منهار في ظلّ العبث بالمناهج وفرض مناهج مؤدلجة، إضافة إلى النّزوح والهجرة؛ ما أدى إلى حرمان ما يقارب ثلاثة ملايين طفل من التعليم، وهذا يعدّ كارثة اجتماعيّة وإنسانيّة ووطنيّة تضاف إلى كوارث الشعب السُّوري، والتي ستظهر نتائجها في المستقبل القريب.
المصدر: الخابور