تعلن الأكاديمية السويدية عن فائزيْن بجائزة نوبل للآداب في شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، وتسعى الهيئة التي تختار الفائزين إلى تجاوز آثار 2018 السلبية على صورتها، إذ أدت اتهامات بسوء سلوك جنسي وتضارب المصالح إلى تنحي عدد من أعضاء مجلس الأكاديمية وحجب الجائزة لعدم اكتمال النصاب.
وفي العام الماضي 2019 صرح رئيس لجنة جائزة نوبل للآداب أندريس أولسون بأن الجائزة يتوقع أن تكون أكثر تنوعا وتراعي التوازن بين الجنسين، وتتجنب “مركزية أوروبا” التي هيمنت سابقا، لكن اختارت اللجنة كلا ً من الروائية البولندية الرائدة والناشطة السياسية المعارضة للحكومة اليمينية في بلدها أولغا توكاركوك لجائزة 2018، والأديب النمساوي بيتر هاندكه المعروف بتأييده التيار اليميني الصربي المتطرف منذ التسعينيات لجائزة 2019.
ورغم أن أولسون قال حينها إن معايير الجائزة تغيرت لتصبح أكثر اتساعا وشمولية، فإن بعض النقاد رأوا في المعايير “غير الأدبية” تقليلا من القيمة الأدبية للجائزة ومراعاة لحسابات “غير مهنية”.
ويرى الأكاديمي الأميركي بروتون فيلدمان في كتابه النقدي “جائزة نوبل.. تاريخ العبقرية والجدال والحظوة”، أن “الجائزة تُرى على نطاق واسع كجائزة سياسية، أي جائزة نوبل للسلام متنكرة في قناع أدبي”.
انحيازات غير أدبية
ويرى فيلدمان وغيره من نقاد الجائزة أن أعضاء اللجنة الذين يختارون الأعمال الفائزة بنوبل للآداب يتحيزون ضد المؤلفين ذوي الأذواق السياسية المختلفة عن ميولهم. ويوحي تصريح رئيس اللجنة الأخير عن توسيع المعايير بقبول ضمني لبعض النقد الموجه لها.
وكان السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية هوراس إنجدل قد أعلن عام 2009 أن “أوروبا لا تزال مركز العالم الأدبي”، وأن “الولايات المتحدة معزولة للغاية، ولا تترجم بشكل كاف، ولا تشارك حقا في الحوار الكبير للأدب”.
وفي هذا السياق، شكك الروائي والأكاديمي البريطاني تيم باركس في أن يكون أعضاء اللجنة السويديون في الغالب قادرين على تذوق الشعر الإندونيسي مثلا أو الأدب الأفريكاني، منتقدا في مقال سابق له في”نيويورك لعروض الكتب” أن يكون أعضاء الأكاديمية قادرين على تحديد أعظم الروائيين والشعراء على الساحة الدولية، ومشيرا إلى انحيازهم للثقافة الإسكندنافية، حيث فاز 16 أديبا من أصول إسكندنافية بالجائزة العالمية من أصل 113 منذ إطلاقها وحتى العام 2016.
وينظر فيلدمان وباركس وغيرهما من نقاد الجائزة إلى تاريخ طويل مما يعتبرونها انحيازات سياسية وغير أدبية للجائزة العالمية، فمن العام 1901 إلى 1912 قيّمت اللجنة السويدية برئاسة كارل دافيد أف ورسين المحافظ الجودة الأدبية للأعمال بالنظر إلى إسهامها في نضال الإنسانية “نحو المثل الأعلى”، ومع ذلك لم يُمنح أدباء كبار مثل الروائي الروسي ليو تولستوي، والمسرحي النرويجي المثير للجدل هنريك إبسن، والروائي الأميركي الساخر مارك توين، الجائزة التي منحت في المقابل لأدباء ليسو مقروئين في عالمنا اليوم.
ومنحت الجائزة الأولى من نوبل للآداب عام 1901 للشاعر الفرنسي سولي برودوم الذي قالت اللجنة المانحة إنها كرمته تقديرا لتكوينه الشعري الذي يقدم دليلا على “المثالية السامية والكمال الفني، ومزيج نادر عقلي وقلبي”. وفي المقابل اعتقدت دوائر أدبية مختلفة آنذاك أن تولستوي (رغم نزعته الواقعية غير المثالية) كان الأجدر بأول جائزة نوبل للآداب.
السياسة أم الأدب؟
تم ترشيح الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس للجائزة عدة مرات، ولكن الأكاديمية -كما يقول كاتب سيرته إدوين ويليامسون- لم تمنحها له على الأرجح بسبب دعمه لبعض الدكتاتوريين العسكريين اليمينيين في الأرجنتين وتشيلي، بما في ذلك أوغستو بينوشيه.
وسلط إخفاق بورخيس في الحصول على جائزة نوبل لدعمه لهؤلاء الدكتاتوريين اليمينيين الضوء على مفارقة تكريم اللجنة للأدباء الذين ساندوا علانية “الدكتاتوريات اليسارية” المثيرة للجدل، إذ نال الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز المعروف بتأييده للثورة الكوبية وزعيمها كاسترو الجائزة عام 1982، وكان الشاعر الدبلوماسي والسياسي التشيلي بابلو نيرودا -الذي فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1971- معجبًا بكاسترو كذلك ومغرما بالاتحاد السوفياتي وزعيمه جوزيف ستالين، وحصل على جائزة ستالين للسلام عام 1953، أي في العام نفسه الذي توفي فيه زعيم الاتحاد، وكتب قصيدة في مدحه، كما وصف فلاديمير لينين بأنه “عبقري عظيم في هذا القرن”.
وخلال الحرب العالمية الأولى تبنت اللجنة السويدية سياسة الحياد لصالح الكتاب من الدول غير المشاركة في الحرب بحسب نقاد الجائزة، ومنحت جوائز أقل بشكل عام خلال الحرب العالمية الأولى والثانية.
جائزة النخبة أم الشعوب؟
وتجاوزت الأكاديمية السويدية الكاتب المسرحي والروائي السويدي الشهير أوغست ستريندبرغ عدة مرات ولم يُمنح نوبل لميوله الاشتراكية التحررية، وهجائه اللاذع للطبقات العليا من المجتمع السويدي.
ورغم أن ستريندبرغ خسر الجائزة عام 1909 أمام الأديبة -السويدية أيضا- سيلما لاجرفل التي كانت أول امرأة تحصل على نوبل للآداب، فقد تضامن كثيرون معه ونظمت حملات تبرع شعبية جمعت قرابة 45 ألف كرونة سويدية، ومُنحت له من قبل أكثر من عشرين ألف متبرع -معظمهم من العمال- تحت اسم “جائزة الشعب” كتكريم بديل له.
وجرى ترشيح الكاتب المسرحي الإسباني أنجيل غيميرا الذي كتب أعماله الأدبية باللغة الكتالونية 23 مرة للجائزة، لكنه لم يفز بها -على الأرجح- بسبب ضغوط سياسية من الحكومة المركزية في إسبانيا.
وفاز بالجائزة عدة كتاب منفيين أو معارضين ممنوعين من النشر في بلدانهم، مثل الأديب الغواتيمالي المنفي والمناهض للاستبداد في أميركا اللاتينية ميغيل أنخل أستورياس الذي نال الجائزة عام 1967، ونال الكاتب والشاعر السوفياتي بوريس باسترناك الجائزة عام 1958 على خلفية روايته الناقدة للنظام الشيوعي “دكتور زيفاكو” بعد تهريبها ونشرها خارج الاتحاد السوفياتي، لكنه رفض استلام جائزة نوبل بعدما ضغط عليه الحزب الشيوعي السوفياتي لرفضها.
ورغم أن بعض الاعتبارات غير الأدبية مثل الوقوف في وجه الدكتاتوريات والتضامن مع الكتاب المنفيين قد تحظى بتقدير مثقفين وأدباء حول العالم يرون مسؤولية لدور المثقف في الإصلاح السياسي والاجتماعي، فإنها في الوقت ذاته تثير الجدل حول أحقيتها وأولويتها، بينما يرى قطاع آخر من الأدباء والنقاد أن الأدب فن جمالي وإنساني لا ينبغي تقييمه بمعايير أخلاقية ونضالية. وهكذا ينعكس النقاش الأدبي والفلسفي حول دور الأدب وغائيته جدلا حول الجائزة العالمية وتحيزاتها المفترضة.