قاد الإسكندر الأكبر، الشاب الجسور جيشه منطلقاً من شمال اليونان إلى الأراضي التي تُعرف الآن بباكستان. قاتلاً آلاف الأعداء، وأمراً بتنفيذ العديد من عمليات الإعدام والمذابح لدرجة أنَّه طعن صديقه القديم حتى الموت في غمرة سُكره.
لقد قتل الإسكندر الأكبر الكثير من الناس، لكن هل بدأ الإسكندر الأكبر عهده ملكاً لمقدونيا بتدبير جريمة قتل والده الملك فيليب الثاني؟
فيليب الأوّل VS الإسكندر الأكبر
يعود الفضل في فتوحات الإسكندر وانتصاراته إلى مسيرة والده فيليب الثاني، فقبل كلّ شيء كان فيليب هو الذي أنقذ مقدونيا من هلاكٍ وشيك، متغلّباً على جيرانها الأقوياء قبل أن يتوسّع حتى سيطر على اليونان والبلقان.
فقد كانت مملكة مقدونيا في حالةِ ركودٍ سياسيّ، قبل أن يحوِّلها والده فيليب إلى قوةٍ عسكريةٍ عظمى، ليس فقط في اليونان القديمة وإنما في العالم.
وأنشأ فيليب خلال عملية إعادة توحيد مقدونيا والسيطرة على جيرانها الأقواء جيشاً قوياً فريداً من نوعه، يجمع أنواعاً مختلفة من القوات في جيش واحد ضخم سريع الحركة. وكان هذا الجيش معتزاً بفرقة الفرسان المدربين التي أسسها فيليب، فضلاً عن كتائب المشاة الشهيرة باسم “الكتائب المقدونية”، التي ابتدعت أسلوباً جديداً في القتال.
كانت كتائب مُشاة فيليب متسلحةً برماح صيدٍ طويلة تُدعى ساريسا -يبلغ طولها 5 أمتار ونصف المتر- وهي عبارة عن أقطابٍ خشبية ذات رؤوس حديدية تتحرك في تشكيلاتٍ ضيقة تضم طولياً ثمانية رجال وفي عمقها تضم 16 رجلاً.
كان هذا هو الجيش الذي قاده الإسكندر المقدوني ضد الإمبراطورية الفارسية. لقد قاد الإسكندر الجيش المكوّن في الواقع من رجال وكتائب فيليب التي أسسها، والذين قاتلوا معه بنفس الطريقة التي قاتلوا بها مع والده على مدار أكثر من 20 عاماً في رحلته لتوحيد مقدونيا تحت سلطته.
قُتل الملك فيليب عام 336 قبل الميلاد طعناً في مسرح إيجة (فيرغينا حالياً) عن عمر 47 عاماً وسط حشدٍ كبيرٍ جاء من جميع أنحاء مقدونيا واليونان الموحَّدة تحت حكمه لإظهار الدعم له.
وبينما كان فيليب يدخل المسرح بكامل نشاطه، وهو يعرج بسبب جرحٍ قديم في إحدى المعارك، ركض نحوه أحد حراسه الشخصيين المقربين، شاب يُدعى باوسانياس، وأخرج خنجراً من تحت عباءته وطعن فيليب بين الضلوع وفرَّ هارباً.
غرق فيليب في دمائه، ومات الملك في غضون لحظات، وتبعه قاتله الذي أُلقى القبض عليه عندما تعثَّر وهو يركض نحو الخيول التي تنتظره للهروب.
لا نحتاج لتخمينات كثيرة أو لقراءة الأحداث مرة أخرى لندرك أنّ ما حققه الإسكندر الأكبر في سنِّه الصغير هذا، لم يكن ليحققه لولاً جهود والده خلال العقدين الماضيين التي خاض فيها حروباً مُهلكة من أجل توحيد مقدونيا واليونان تحت حكمه.
مقتل فيليب.. جريمة اغتيال بدافع مَظلَمَة شخصية
لنحاول الآن أن نفهم: لماذا قتل هذا الشاب باوسانياس الملك فيليب الثاني؟ كل المؤشرات تشير أنّ هذه الجريمة ارتكبت بدافع الغضب من مشكلةٍ شخصية كانت معروفة على نطاقٍ واسع في طبقة الحكم آنذاك في مقدونيا. وفق ما ذكره موقف History الأمريكي.
في اليونان القديمة لم تكن العلاقات الجنسية محرّمة بالشكل التالي الذي حرّمته الأديان، والملك أو القائد يمتلك عادةً أكثر من زوجة، فقد كان فيليب نفسه يمتلك حوالي 8 زوجات! لكنّ المثير أنّ فيليب الثاني امتلك أيضاً “غلمان” إلى جانب نسائه، وهكذا، كانت رغبته تلك سبباً في مقتله في النهاية.
فعندما كان باوسانياس مراهقاً، اعتاد أن يكون الفتى المحبوب المفضَّل للملك. كان فيليب الثاني متعدِّد الزيجات مثل جميع الملوك المقدونيين كما ذكرنا، واشتهر بعلاقاته الغرامية مع العديد من الفتيات والفتيان على السواء.
ومع ذلك، سرعان ما زاغت عينا فيليب، واستبدل شابٌ آخر بباوسانياس، الذي شعر بالاستياء من الحبيب الجديد للملك، وهو ما دفعه للسخرية منه واتهامه بأنَّه مخنَّث ولا يقوى على القتال. تأذى العاشق الجديد من سخرية باوسانياس وحاول إثبات شجاعته ورجولته، فقاتل بصورةٍ متهورة في إحدى المرات، وهو الأمر الذي أدّى إلى قتله.
كان هذا الشاب المقتول لديه أصدقاءٌ وأقارب يشغلون مناصب عليا في البلاد، أبرزهم القائد أتالوس، الذي تزوج فيليب ابنة شقيقه في عام 335 ق. م.
وهنا قرَّر أتالوس الانتقام من باوسانياس بسبب مقتل المحبوب الجديد للملك. دعاه أتالوس إلى مأدبة طعام وقدَّم له الخمور حتى سكر بعنف. وهنا، انهال أتالوس وأصدقاؤه بالضرب على باوسانياس بصورةٍ وحشية وربما اغتصبوه، ثم تركوه في حالةٍ يرثى لها للبغّالين العاملين لدى أتالوس، الذين شرعوا في انتهاكه جسدياً واحداً تلو الآخر.
ومع انتشار نبأ ما تعرّض له باوسانياس من إذلالٍ وعنف، ذهب إلى الملك فيليب طالباً القصاص من أتالوس. وهنا، سعى فيليب، الذي كان سياسياً ماكراً وداهية، إلى تسويةٍ ترضي جميع الأطراف.
أرسل أتالوس بعيداً عن دائرة الحكم ليصبح واحداً من اثنين من القادة المسؤولين عن وحدات طليعة الجيش المقدوني في آسيا الصغرى استعداداً لبداية الحرب الكبرى ضدّ بلاد فارس. وعلى الجانب الآخر، كافأ فيليب باوسانياس بتعيينه واحداً من حرّاسه السبعة الشخصيين.
على الرغم من أنَّ هذا المنصب يُمثّل شرفاً كبيراً لشابٍ صغير في مثل عمر باوسانياس، ولكنه لم يسهم في محو ذكرياته السيئة عمّا تعرّض له من إهانةٍ وإذلال، ولا شك أنَّ أقارب أتالوس وأنصاره في البلاط الملكي ظلُّوا يعايرونه بما تعرّض له على يد قريبهم.
صبَّ باوسانياس كراهيته على فيليب الثاني بعد فترةٍ طويلة من مواصلة التفكير في الأمر كلّه، وذلك لفشل فيليب في معاملته بنفس الاحترام الذي شعر أنَّه يستحقه بصفته حبيبه السابق، الذي قاتل إلى جانبه في وقت الحرب واحتفل معه في وقت السلم.
استخدم الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي كان يعرف فيليب وقضى عدة سنوات في بلاطه الملكي، والذي درّس ابنه الإسكندر لفترة، جريمة القتل مثالاً توضيحياً على الاغتيال بدافع الشعور بالضغينة والغضب جراء التعرّض لمظلمةٍ شخصية.
هل كان القاتل بيدقاً في مؤامرةٍ أكبر؟
ولكن، بمرور الوقت أثيرت تساؤلات عديدة حول ما إذا كان هناك جزءٌ مخفيٌّ من الحكاية: فهل تصرّف باوسانياس بمفرده أم كان هناك شخصٌ آخر استخدم هذا الشاب المصدوم جندياً في لعبةٍ أكبر لاغتيال فيليب وتغيير قواعد اللعبة السياسية؟
فبعد مقتل فيليب كان هناك أكثر من حصانٍ لتسهيل هروب باوسانياس، وهو أمرٌ مثيرٌ للريبة. بل ويتساءل البعض عمّا إذا كان الحرّاس الشخصيون الآخرون قد قتلوا باوسانياس بسرعة، قبل أن يركب الحصان ليلوذ بالفرار، لإسكاته قبل أن يتحدَّث ويورّط أيَّ شخصٍ آخر.
اتهم الإسكندر لاحقاً الملك الفارسي بتدبير جريمة القتل تلك لإنهاء تهديد العداء المقدوني، دون أن يعلم مدى العدوانية والنجاح الذي سيحققه ابن فيليب لاحقاً. ففي النهاية لم يكن فيليب من غزا فارس، وإنما ابنه الشاب الإسكندر.
كما ألقت بعض الروايات باللوم على والدة الإسكندر، أوليمبياس. فقد كانت والدة الإسكندر واحدة من بين 7 أو 8 زوجات لفيليب، لكنها تمتّعت بمكانةٍ مميزة بصفتها والدة الوريث المحتمل للعرش.
مع ذلك، كان يُعتقد على نطاقٍ واسع أنَّ أوليمبياس وزوجها كانا يكرهان بعضهما البعض. ويُعتقد أنَّها غضبت من زوجة فيليب الأخيرة (ابنة شقيق أتالوس) ووُجّهت إليها أصابع الاتهام في مقتلها هي وطفلها المولود بعد وقتٍ قصير من واقعة اغتيال فيليب.
كانت أولمبياس تنتمي لطائفة دينية وثنية تعبد الأفاعي، ويذكر أنّها لم تكن تخشى الثعابين، بل وتنام معها في السرير ليلاً وتلهو معها أثناء النهار.
كانت ابنة ملك منطقة اسمها إيبروس، وعندما توفي والدها عام 360 ق. م استلم عمها العشر وبدا في تأسيس بعض التحالفات، فرتب لها زواجاً ديبلوماسياً مع فيليب، كانت اولمبياس زوجته الرابعة أو الثالثة، وعندما أنجبت ابنها الإسكندر، وضعت لابن فيليب من زوجةٍ أخرى السمّ ليموت، لكنّه لم يمت ولكن السم قد ذهب بعقله، فخلا الجو للإسكندر ليصبح خليفة والده.
بعدما تزوّج فيليب من قريبة أتالوس، زادت المشاكل بين فيليب و أوليمبياس، خصوصاً أنّ أتالوس وعصبته بدأوا يهمسون في أذن فيليب بضرورة أن ينجب من قريبته لأنّ ابنه الإسكندر ليس “مقدونياً صافياً” لأنّ أمه أوليمبياس من مملكة إيبروس.
وفي مطلع شباب الإسكندر، يسجّل المؤرخون تلاسناً مع والده فيليب، فغضب عليه الملك وهنا قررت والدته أن تنسحب به إلى بلادها لبعض الوقت. كان أخوها قد أصبح ملكاً لإيبروس، ولكي لا يدخل معه فيليب في عداوة عرض عليه أن يتزوج من ابنته كليوباترا، وفي حفل الزفاف ذاك اغتيل فيليب على يد باوسانياس.
لعبت أوليمبياس دوراً كبيراً في حياة ابنها، بل وقادت الجيوش، في وقتٍ لاحق بعد وفاة الإسكندر، وقَتَلت الخصوم في الصراع من أجل السيطرة على الخلافة باسم حفيدها الإسكندر الرابع، ولكنها لم تنجح في النهاية.
كانت أوليمبياس بدون شك شخصية قوية للغاية اتّسمت بالقسوة والصلابة والذكاء مثل زوجها وابنها.
رغم كلّ ذلك، لا زالت قضية تورّط الاسكندر في اغتيال والده مجرد تخمين
في ذلك الوقت، اشتبه الكثير من الناس في أنَّ الإسكندر نفسه كان هو الذي دبّر جريمة قتل والده بدافع طموحه للوصول إلى الحكم.
أُعلن الإسكندر، البالغ من العمر حينها 21 عاماً، ملكاً لمقدونيا في غضون ساعاتٍ من مقتل والده فيليب. ونفَّذ الإسكندر الأكبر عدة إجراءات لتأمين منصبه، إذ أمر بإعدام اثنين من المنافسين المحتملين وأرسل أوامر إلى آسيا الصغرى لإقصاء أتالوس عن الجيش.
عزّزت حملاته العسكرية السريعة على مدى العام التالي من سيطرته على جنوب اليونان وحدوده في منطقة البلقان. ولكن لا تشير أيٍ من تلك الإجراءات إلى تورُّط الإسكندر أو معرفةٍ مسبقةٍ له باغتيال والده فيليب.
وبمجرد وفاة فيليب، كانت إجراءات الاسكندر تدابير وقائية ضرورية لأنَّ أي مسار عملٍ آخر كان على الأرجح سيؤدي إلى اغتيال الإسكندر نفسه. لم يكن التردد من سمات الإسكندر في أي مرحلة من مراحل عمره.
أثبت موت فيليب -على أقل تقدير- حسن حظ الإسكندر، إذ جعله حاكماً لمقدونيا الموحَّدة المزدهرة وبات مسؤولاً عن جيشها الضخم القوي الذي بناه أبيه، وكانت الحملة الكبرى ضد بلاد فارس بالكاد قد بدأت.
يظهر التاريخ المنفعة التي حقّقها الإسكندر من اغتيال والده. قد يكون الإسكندر ببساطة شخصاً محظوظاًً وانتهازياً من الطراز الأول في آنٍ واحد، مثل العديد من القادة المشهورين عبر التاريخ.
لا يُعرف الكثير عن شخصية الإسكندر الداخلية لتأكيد ما إذا كان بإمكانه تدبير قتل والده، ولا يوجد أي حقائق تثبت أنَّه فعل ذلك. تبقى هذه القضية لغزاً آخر يضاف إلى مجموعة الألغاز والأسرار التي تحيط بمسيرة الحياة الاستثنائية والهائلة للإسكندر المقدوني.