واشنطن بوست: هيئة تحرير الشام تسعى للتخلّص من ماضيها

واشنطن بوست – ترجمة: ربى خدام الجامع

ظلّ مقاتلون إسلاميون يهاجمون المحطة الإذاعية على مدار سنين طويلة، لأنها “تبث الموسيقا وتوظف النساء وتتبنى القيم الليبرالية، التي تمثل خطراً على هؤلاء الرجال السوريين المتحمسين وعلى بنادقهم”.

ولكن خلال الفترة الأخيرة، توقّفت الهجمات التي تستهدف المحطة الإذاعية، وذلك لأن مَن يستهدفها وهي جماعة مقاتلة كانت مرتبطة بتنظيم القاعدة فيما مضى وتُعرف باسم “هيئة تحرير الشام”، تحاول أن تقنع السوريين والعالم كله بأن تلك الجماعة لم تعد راديكالية كما كانت في السابق.

ذاع صيت تلك الجماعة قبل عقد من الزمان بوصفها أكبر التشكيلات الإسلامية للثوار الذين كانوا يحاولون إسقاط نظام بشار الأسد، إلا أنّ ذلك التنظيم أتى ليمثل قوى الظلام التي انتشرت كالسرطان خلال الحرب السورية، فهو عبارة عن حركة جهادية استقطبت مقاتلين متطرفين من مختلف أرجاء العالم، وهي تسعى لإقامة دولة إسلامية.

واليوم تعلن هذه الجماعة بأن تركيزها قد تغيّر نحو تقديم الخدمات إلى ملايين الناس في محافظة إدلب التي يسيطر عليها الثوار في سوريا، وذلك عبر حكومة وليدة، كما أنها قطعت علاقاتها بتنظيم القاعدة قبل خمس سنوات، وتدّعي اليوم بأنها تقمع الجماعات المتطرفة الأخرى.

أما مؤسسها وهو جهادي مخضرم كان يرتدي البزة العسكرية في كل مكان، فقد أصبح اليوم يظهر في الصور وهو يرتدي بزة رسمية عادية.

ويعلق على ذلك عبد الله كليدو المدير التنفيذي للراديو الذي يعرف باسم “راديو فريش”، فيقول: “يحاول ذلك الفصيل الذي كان يضايقنا أن يظهر للناس بأنهم معتدلون، أي أنهم يحاولون تنظيم الأمور حتى يظهروا وكأنهم يمثلون دولة، إلا أن التجربة التي مرت بها إدلب تقدّم لنا رؤية قلما تظهر حول قيام حركة مقاتلة بالتحول وبتغيير اسمها حتى تبقى”.

“هنالك تغيير”

يرى محللون بأن “هيئة تحرير الشام” كانت براغماتية فقد اعترفت بحاجتها للتأييد والدعم الشعبي، ولهذا أخذت تعيد حساباتها وتستخدم المنطق فيما يتصل بمحاربة التطرف، على أمل أن يعجب ذلك الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي صنّفت تلك الجماعة على أنها إرهابية.

والهدف هنا هو ضمان بروزها بين مجموعة من الأطراف التي تتنافس على السلطة في سوريا بعد النزاع، وذلك عبر تقديم نفسها على أنها “لا يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها” بحسب تعبير عروة عجوب أحد المحللين المخضرمين لدى مركز تحليل وأبحاث العمليات، وهو مركز استشاري متخصص بالمخاطر السياسية.

 

يتساءل كثيرون في إدلب عن الدولة التي يبنيها مقاتلون بسرعة فائقة بدعم قليل أو بدونه من قبل العامة. لقد تغيرت تلك المحافظة، ولكنها لم تتحول إلى دولة بعد، وإنما لمكان تستقر فيه الأمور بموجب إجراءات روتينية مبنية على أوامر معينة، حيث يقف أفراد من شرطة المرور عند التقاطعات، وتنقل الحافلات طلاب المدارس والركاب، ويصطف المواطنون في طوابير أمام الوزارات أو شركات المرافق، لقضاء حاجاتهم الأساسية والدنيوية.

إلا أن مَن يحكمون إدلب لم يلعبوا ذلك الدور الفاعل في تخفيف مصاعب الحياة اليومية في تلك المنطقة التي تؤوي فيها المخيمات عدداً كبيراً من النازحين السوريين. كما فشلت الحكومة هنا في منع التضخم، بل وتسببت في خروج مظاهرات ضدها عند فرضها لضرائب على مزارعي الزيتون لزيادة عائداتها من الضرائب المفروضة على الاستيراد. أما الصحفيون وغيرهم ممن ينتقدون تلك الحكومة، فتواصل الهيئة اعتقالهم لمجرد الانتقاد.

أسامة شومان، وهو شابٌّ مقاتل من الثوار يبلغ من العمر 24 عاماً، وقد حصل على إجازة من القتال على الجبهات، غادر مبنى عاماً متهدماً عصر أحد الأيام بعد تسجيل زواجه، تلك المهمة التي كانت مستحيلة قبل بضع سنوات.

وبطريقة ما تبدو تلك العملية بلا معنى، وذلك لأن الحكومة التي سجّلت الزواج لا تعترف بها أي دولة في العالم، كما أن هذه الخدمة لن تحل المشكلة التي يعاني منها أسامة في الوقت الراهن ألا وهي الفقر، إذ يعيش هو و15 من أفراد أسرته معاً في شقة غير مكتملة البناء، حسبما ذكر. ولكنه بدا راضياً عما أنجزه من تلك المهمة بصيغتها الرمزية وهو يقف خارج وزارة السجل المدني، وهذا ما دفعه ليقول: “هنالك تغيير”.

تطور المقاتلين

تواصلت الهجمات على راديو فريش على الدوام، منذ تأسيسه عام 2013، وذلك لأن تلك المحطة تبث الموسيقا مع الأخبار وتحذيرات للمواطنين من غارات النظام الجوية، ولسوء حظ ذلك الراديو تعرض للقصف على يد قوات النظام، كما تعرض لهجمات على يد العديد من الجماعات المقاتلة الإسلامية بينها “جبهة النصرة” وهي ميليشيا متشددة تحولت فيما بعد إلى “هيئة تحرير الشام”.

كان عبد الله كليدو المدير التنفيذي للراديو من بين كثيرين في إدلب ممن راقبوا بعين الشك والحذر تطور تلك الجماعة، بدءاً من أيامها الأولى عندما أُسِّست الحركة، عام 2011، على يد جهاديين سوريين كانوا مصميين على إسقاط النظام في دمشق.

 

ولهذا كان يرى تلك الجماعة بأنها جزء من الثورة السورية في بداية الأمر، أو على الأقل تعمل لتحقيق الهدف ذاته كغيرها من المعارضين الليبراليين المناهضين للنظام الذين كانوا يسعون لإسقاط الأسد، وبينهم عبد الله نفسه الذي يخبرنا من مكاتب الراديو التي أقيمت في أحد الأقبية فيقول: “كانوا موجودين في البداية، واشتهروا بالقتال، فأحبّهم عامة الناس كثيراً”.

وفي غضون بضع سنين، وثّقت منظمات حقوقية العديد من الفظائع التي ارتكبتها تلك الجماعة وتشمل التفجيرات الانتحارية التي قتل فيها مدنيون، والتعذيب والإعدامات الميدانية. وهكذا أخذت جبهة النصرة “تدخل في نزاعات مع فصائل مسلحة أخرى، وبدأ كل منها يأكل الآخر”، بحسب وصف عبد الله. ثم أصبحت تلك النزاعات “أكبر من الثورة” بعين  تلك الجماعات المقاتلة.

unnamed (1).jpg
أحد المنتجين في راديو فريش

أخذت تلك المرحلة التي اتسمت بالعنف بالتراجع والانحسار قبل بضع سنوات، إلا أن ذلك لم يحدث قبل اغتيال ضحية أخرى من راديو فريش، حيث قتلت هذه المرة مؤسس الراديو رائد الفارس، عام 2018، مع زميل له، وذلك عندما أمطرَ رجال مسلحون سيارته بوابل من الرصاص، ولهذا ألقى زملاؤه اللوم على الهيئة، إلا أنها أنكرت مسؤوليتها عما جرى.

خفتَ التهديد الذي تمثله العديد من الفصائل المسلحة، على الأقل حالياً، إلا أن عبد الله يقول: “الآن لا يوجد سوى فصيل واحد يحكم” في إشارة إلى هيئة تحرير الشام التي يبدو وكأنها تتوق إلى نيل الدعم والتأييد الشعبي.

ومما يدلل على ذلك عدم ظهور عناصر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين كانوا يعملون بحصانة فيفرقون بين الأزواج ويضايقون النساء من أجل لباسهِن في الشوارع والطرقات، ولكن حتى وإن خفف المقاتلون من فرض عقيدتهم الدينية، نجدهم قد زادوا من الإجراءات البيروقراطية.

حارب صحفيو راديو فريش للحصول على بطاقات صحفية، التي أصبحت مديرية الإعلام الجديدة تطلبها اليوم، ولكن لنقل خبر معيّن، مثل زيارة المحكمة “يتعيّن علينا أن نحصل على مئة موافقة”، بحسب ما ذكره المدير التنفيذي لراديو فريش، الذي أردف قائلاً: “على أية حال بعض التنظيم أفضل من الفوضى”.

تجربة في الحكم

جهود الهيئة في تغيير اسمها تمثلت أيضاً بتشكيل حكومة الإنقاذ وإقامة وزارات لها تشرف على الصحة والتعليم وغير ذلك من الخدمات المقدَّمة للعامة. إذ قررت تلك الجماعة المقاتلة تأسيس هذه الحكومة خلال فترة انفصالها عن تنظيم القاعدة، عندما بدأت الهيئة بتهميش المتشددين ضمن هذه الحركة “ممن اعتقدوا بأن الجهاد العابر للأمم هو خيارهم الوحيد” كما وصف عروة عجوب.

وتابع: بعد ذلك ظهرت مشكلة “طريقة الحكم” وذلك لأن هيئة تحرير الشام سعت لتغيير وضعها بعدما تحولت إلى جهة منبوذة دولياً، ولذلك: “رغبت في إظهار سيطرتها على الأهالي وكيف أنها تحل المشكلات”.

ولكن منذ البداية تم التشكيك بتلك الحكومة التي لم تكن سوى واجهة للهيئة، ناهيك عن الشكوك التي تدور حول أهليّتها وقدرتها على إدارة محافظة قد تستشكل أمورها على أكفأ وأقدر المحافظين، وذلك لأن رحى الحرب ما تزال تدور في إدلب، وفيها قرابة مليون نسمة، نصفهم نازحون ويعانون في تأمين الغذاء والمأوى.

وصف الناطق الرسمي باسم الهيئة محمد خالد العلاقة بينها وبين وحكومة الإنقاذ بالـ”شراكة”، وذكر أنّ أُسُسَها وُضعت في عام 2016 لتأمين الحياة الكريمة لأهالي إدلب بالإضافة إلى السعي لإظهار أن هنالك “بديلاً عن النظام” في دمشق.

قطعت السلطات أشواطاً طويلة لتصوير حكومة الإنقاذ على أنها مستقلة عن الهيئة، إلا أنه عندما زارَ صحفيون وزارة السجلّ المدني منذ فترة قريبة، وسألوا عن سبب انتشار ملصقات على العديد من الجدران تطلب مقاتلين للهيئة، أخبرهم المسؤولون بأن تلك الملصقات “قديمة”، ولكن في غضون نصف ساعة، تمت إزالة تلك الملصقات.

تبيّن بأن عملية الحكم صعبة ومتعبة، فوزارة التعليم تشرف على تعليم نصف مليون طالب في مبانٍ متداعية أو مدمّرة وفي صفوف مكتظة، كما أن آلاف المعلمين يعملون متطوعين، بما أن الحكومة ليس لديها تمويل لتدفع لهم ولو مبلغاً رمزياً كلّ شهر، وذلك وفقاً لما ذكره وزير التعليم بسام صهيوني الذي علّق قائلاً: “إذا تركنا الأطفال بلا تعليم، فسيصبحون جهلة وسيتجهون نحو التطرّف”.

 

يشمل المنهاج الذي يدرّس في مدارس إدلب المواد المعروفة مثل العلوم والرياضيات واللغة الإنكليزية والتاريخ، وقد وُضع بالتشاور مع شركاء دوليين بينهم يونسيف، وفقاً لما أورده الوزير، من دون أي محاولة لفرض العقيدة الدينية ضمن ذلك المنهاج.

إلا أن المدارس تقدّم تنازلات ولو ضئيلة أمام موجة المحافظين المتشددة، حيث تتجه لفصل الصفوف بناء على النوع الاجتماعي، وابتداء من الصف الأول، بحسب ما ذكر الوزير.

وفي وزارة الداخلية، يبدو الفصل المريب في السلطة بين الحكومة والهيئة واضحاً وجليّاً، فهذه الوزارة تتحكم ببعض الوظائف الأمنيّة ولو اسمياً، مثل تنظيم السير وإجراء التحقيقات الجنائية، إلا أن أموراً أمنية أخرى، كتلك التي تتصل بالأمن الوطني، فهي من اختصاص هيئة تحرير الشام بحسب ما ذكره وزير الداخلية أحمد لطوف.

أمّا القضايا التي تتعلق “بالحرب والسلام والاقتصاد” فقد بقيت تحت سيطرة الهيئة وفقاً لما ذكره عروة عجوب، وهو أحد الباحثين الذين رأوا بأن الاستبداد بات السمة التي تميّز هذه الجماعة، لأن الهيئة تستغل سلطتها في قمع جماعات الثوار التي تنافسها، وبينها فصائل متطرفة، ولتحتجز أيضاً جهاديين أجانب يعملون في إدلب وفق “عجوب”، لكنها أيضاً تلاحق من تعتبرهم أعداء، وبينهم أشخاص عاديون يقومون بانتقادها.

 

بعدما كتبَ الصحفيٌّ أدهم الدشارني منشوراً على “فيس بوك”، قبل بضعة أشهر، اشتكى فيه من رفض الحكومة منحه بطاقة صحفية، وصلته مذكّرة استدعاء لوزارة الإعلام، وعندما رفض، استُدعي للتحقيق، وفي نهاية المطاف طُلب منه المثول أمام محكمة عسكرية، حيث سأله المحققون عن سبب تعليقه بشكل مسيء لحكومة الإنقاذ واتهموه بالتواصل مع أشخاص آخرين يوجهون انتقادات للهيئة.

وخلال فترة محاكمته أودع في سجن داخل مبنى الكهرباء بمدينة إدلب، ويُعَدُّ هذا المبنى أحد مراكز الاعتقال العديدة التي أوردت منظمات حقوقية بأن حكومة الإنقاذ والهيئة ترفضان الاعتراف بوجودها بشكل رسمي.

سبيل أدهم أخلي بعد 15 يوماً أمضاها في السجن، واليوم يخبرنا بأن الحكم المخفف لن يغيّر رأيه بتلك الجماعة، لكنّه أصبح “أشدّ حذراً”.

 المصدر: واشنطن بوست

Read Previous

“الخوذ البيضاء”: استهداف روسيا للمرافق الحيوية استمرار لسياسة القتل والتشريد

Read Next

إصابات كورونا في تركيا تتجاوز 54 ألفاً خلال 24 ساعة

Leave a Reply

Most Popular