بين غزة وإدلب.. هل فقد السوريون تعاطفهم الإنساني؟

سيريا مونيتور – خاص

حنين عمران

لا يعد تعاطف السوريين مع مأساة الفلسطينيين في غزة مماثلاً لتعاطف بقية الشعوب العربية معها، وعلى الرغم من أن التعاطف الإنساني حالة صحية في المجتمعات الإنسانية بصرف النظر عن مآلاته وتأويلاته، إلا أن شكل التعاطف نفسه يستدعي الملاحظة وإن كان لا يخضع للمحاكمة أو المساءلة.

ترند عالمي قصير الأمد:

يبدو أن الشعوب العربية وكما حالتها في معظم المآسي العالمية، اعتادت على تحويل الكارثة إلى “ترند” ينتشر بالمحتوى “الفيروسي” والحملات الإعلانية؛ ولا يتحمل العرب وحدهم اللوم في هذه الحالة القابلة للطعن أخلاقياً، إذ إنّ التطور الرقمي وما فرضته وسائل التواصل الاجتماعي من هوس الظهور وأساليب التسويق العاطفي واختلاق المكانة الاجتماعية بحصد “اللايكات” والمتابعين؛ كانت أسباباً حاسمة في غياب الغاية الإنسانية من فعل التعاطف نفسه وتعدّيها إلى مآرب شخصية.

ولم يكن السوريون بمعزل عن هذه الظاهرة المتمثلة بتقهقر العاطفة الإنسانية وتبدّل دوافعها، مع أن فئة كبيرة منهم لا تزال تحتفظ بالمبدأ القائل بكتمان فعل الخير سواء أكان مادياً أم معنوياً، واستمراريته مهما صغر.

العجز بوصفه سبباً لفقد التعاطف:

على نقيض كارثة الزلزال في عام 2023 التي اندفع فيها السوريون بكل ما يملكون من جهود معنوية وتعاطف نبيل وعطاء مادي، أخذ تعاطفهم مع المجازر الإسرائيلية والمجاعة في قطاع غزة صورته الكلامية الخاوية من الأفعال الحقيقية؛ وفي حديثها لموقع سيريا مونيتور، تخبرنا المعالجة النفسية (نبيلة. ع) عن كيف يمنع العجز السوريين من إبراز تعاطف ملموس ومباشر، تقول: “لا يستطيع السوريون بعد أن أنهكتهم الحرب لمدة 13 عاماً أن يهبّوا لمساعدة الغزّيين والدفاع عنهم فلا يملك عامة الناس سلاحاً ولا حتى أموالاً يتبرعون بها في ظل ظروفهم المأساوية؛ ولهذا السبب اقتصر تعاطفهم على المنشورات هنا وهناك بين تنديد واستنكار وبكاء”.

ولا يمكن مقارنة كارثة الزلزال بالحرب الممنهجة على غزة؛ فالأولى (الزلزال) لا عدو مسعور فيها ولا أطراف متنازعة تفرض آراء وتحليلات سياسية، أما الثانية (حرب غزة) فالدخول فيها قد يحمل مخاطر قيام “حرب عالمية ثالثة” أو حجب صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي –على أقل تقدير- الأمر الذي يثير مخاوف البعض حتى من إعلان تعاطفهم.

لا وسائل للتعاطف:

في الوقت الذي يتعاطف فيه بعض العرب مع الفلسطينيين بـ “المقاطعة”؛ أي مقاطعة منتجات الشركات الداعمة للكيان الصهيوني، كحملات المقاطعة الجماعية في مصر والجزائر ودول الخليج العربي، لا يملك السوريون أصلاً منتجات أجنبية أو مستوردة ليقاطعوها، وحتى إن توفرت هذه المواد في السوق السورية بطريقة “التهريب” فإنّ معظمهم غير قادر على شرائها لكونها “رفاهية” ثقيلة على جيوبهم.

وقد اقتصرت مظاهر التعاطف الواضحة في الشارع السوري وفق مشاهدات موقع سيريا مونيتور، على ارتداء قلادة تحمل علم فلسطين أو الخروج في مظاهرات منددة بالحرب على غزة أو لفّ “الكوفية” حول العنق بوصفها رمزاً فلسطينياً، بينما عبّر بعض الفنانون السوريون عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني برسم لوحات أو عزف بعض الأغنيات من الفلكلور الفلسطيني.

تقوقع السوري في “تغريبته السورية”:

يبرر بعض السوريين قلّة تعاطفهم مع الأحداث العالمية عموماً بالإنهاك النفسي الذي سببته الحرب إلى جانب غرقهم في مشاكلهم المعيشية اليومية وظروفهم المأساوية التي لم تتحسن رغم اتخاذ الحرب صورتها “الباردة” في معظم المناطق السورية بعد توقف الاشتباكات الدامية والقصف العشوائي فيها.

تتابع المعالجة النفسية (نبيلة) حديثها حول العوامل النفسية لذلك، تقول: “يرتبط الخَدر العاطفي الذي يعيشه السوريون بالاضطرابات النفسية غير المُعالجة وغير المُشخصة في معظمها، لكونهم لا يملكون رفاهية العلاج النفسي، ويعد الردّ العاطفي المحدود أو البارد عَرضاً لاضطرابات مثل: الاكتئاب واصطراب الصدمة بعد الرض والفصام وغيرها”.

ولا توجد إحصائيات حقيقية عن أعداد المرضى النفسيين في مناطق سيطرة النظام وفي عموم سوريا، على الرغم من تأكيد عدة تقارير صحفية وأخرى صادرة عن الجمعيات والمنظمات الإنسانية، على تضاعف عدد الحالات وتدهور الجانب النفسي لدى السوريين، فضلاً عن التناقص المستمر في عدد الأطباء والمعالجين النفسيين بسبب الهجرة المستمرة للكوادر الطبية.

الجدر بالذكر –حسب قول نبيلة- أن بعض الأدوية النفسية والعصبية ترتبط بصورة مباشرة بـ “تراجع التفاعل العاطفي” بقلة أو انعدام التعبير عن المشاعر لما تحتويه تلك الأدوية من مواد مخدرة أو مثبطة.

الإنكار وأُلفة مظاهر الحرب:

ارتبط مرور السوريين بضغوط نفسية متكررة تفوق قدرتهم على التحمل، بتناقص حدّة مشاعرهم وغياب التعبير عنها؛ فحوادث النزوح والهجرة ومشاهد القتل والدمار وأصوات القصف والتعذيب لم تمرّ على ذاكرتهم مرور الكرام، بل أدخلتهم في حالة من اعتياد كل تلك المظاهر الوحشية.

في لقاء لموقع سيريا مونيتور مع أحد الأطباء النفسيين الذي كان من كوادر “الهلال الأحمر” في دمشق خلال سنوات الحرب (فضَّل عدم ذكر اسمه)، أوضح كيف تحول الإنكار إلى طريقة لدى السوريين لاستمرار العيش.

يقول الطبيب: “لا يظهر اعتياد السوريين على وقوع الكارثة فقط في أُلفتهم لمظاهرها وتوقُّع أسوأ نتائجها واللامبالاة أمام أخبارها، بل يظهر أيضاً في حالة الإنكار التي يعيشونها بتجاهل هذه الأخبار وكأنهم منفصلين عنها تماماً حتى إن انعكست آثارها سلباً عليهم في وقت لاحق أو كانت قريبة منهم في الوقت الحالي؛ وهي آلية نفسية للهروب من الضغط وتخفيف حالة الكَدَر”.

الأثر العكسي لوسائل الإعلام:

على الرغم من محاولات القنوات التلفزيونية والمواقع الإخبارية تغطية أخبار الحرب على غزة على مدار الساعة بغية نقل الحقيقة وكسب التعاطف العالمي لإيقاف الحرب والتضامن مع مأساة الفلسطينيين، إلا أن ذلك حمل بجزء منه نتائج سلبية وإن كان غير مقصود؛ إذ فقدت أخبار الحرب شيئاً فشيئاً أهميتها بالنسبة إلى المتابعين العرب والسوريين على حدٍّ سواء ولا سيما بعد أن طالت مدتها وتجاوزت المئة يوم.

وقد عادت بعض المواقع والقنوات السورية إلى تهميش أخبار غزة أو ترتيبها كثانوية، في مقابل تسليط الضوء على أخبار المجتمع السوري التي تزداد سوءاً على الصعيد الأمني والاقتصادي والمعيشي.

ولا يتعلق ذلك بغايات دفينة أو مخططات مؤامراتية تحيكها هذه المواقع -كما يظن البعض- بل يرتبط بصورة أساسية بالتركيز على اهتمامات الجمهور السوري وتعديل استراتيجيات المحتوى وفق الوصول والتفاعل لدى المتابعين.

في حديثه لموقع سيريا مونيتور، يوضح (أسامة. ج) الطالب في كلية الإعلام كيف أنّه وخلال عمله مع أحد المواقع الإخبارية المعنية بالشأن العربي، والسوري على وجه التحديد، لاحظ انخفاضاً في عدد التفاعلات على المنشورات المتعلقة بالحرب على غزة ولا سيما بعد مرور أسابيع متتالية على بدء الحرب.

يقول أسامة: “كانت المنشورات تحصد تفاعلاً كبيراً في أولى أيام الحرب على غزة، لكن مع مرور الوقت تفوقت أخبار مثل: انخفاض سعر الموز في السوق السورية على خبر ارتفاع عدد الضحايا في غزة! الأمر الذي يعكس أن اهتمامات السوريين محصورة بشكل أو بآخر في أوضاعهم المعيشية التي تدهور باستمرار”.

التعاطف مع إدلب أم مع فلسطين؟

ظهرت في الفترة الأخيرة مناوشات في أوساط السوريين حول أهمية التركيز على أخبار إدلب وما يتعرض له المدنيون من قصف مسعور من الطيران الروسي وميليشيا النظام، ولا تنفي هذه المناوشات ضرورة التعاطف مع الأهل في غزة بل تدعو ببساطة إلى عدم نسيان إدلب؛ إذ عبّر السوريون عن ذلك بقولهم: كلاهما مجرم؛ النظام والكيان الصهيوني.

وبدأت حملات “فيسبوكية” لإعادة توجيه الانتباه العربي والعالمي إلى أخبار إدلب من أجل إيقاف القصف وحماية المدنيين العُزَّل؛ وقد اعتمدت هذه الحملات بصورة مباشرة على الربط بين الحال في غزة والحال في إدلب من خلال المقاربة والمقارنة بما وثقته الكاميرات وشهادات الأهالي.

خيرٌ من “بِلا”!

على الرغم من بعض الانتقادات لشكل التعاطف عند السوريين وشدته، إلا أنّ الأمر لا يخضع لقانون أو محاكمة قطعية بقدر ما يستوجب بحثاً في السياق العام واحتواءً للموقف.

وقد بيّن الطبيب النفسي آنف الذكر أنَّ لا مكان للمزاودات الأخلاقية على نفوس أنهكتها الحرب ولا تزال، يقول: “أي شكل من أشكال التعاطف الظاهر أو التعبير عن المشاعر هو حالة صحية ودلالة على التعافي، ولا أحد يستطيع اختبار النيات والغايات!”.

 

Read Previous

وزارة صحة النظام تكذب.. طبيب سوري يوثق وفيات بمتحور كورونا في مناطق النظام

Read Next

منذ بداية العام الحالي.. الدفاع المدني يستجيب لقرابة 400 حادث سير في شمال غربي سوريا

Leave a Reply

Most Popular