الرقة – سيريا مونيتور | إعداد: إياس المحمد
بينما تسير في شوارع مدينة الرقة، قد لا يخطر في بالك أن ما تحت قدميك شبكة كاملة من الأنفاق، تُحفر بصمت تحت الأحياء السكنية والمباني الرسمية، في واحدة من أكثر العمليات سرية وتنظيمًا في شمال شرقي سوريا. تقف خلف هذه الأعمال قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشرف على تنفيذ المشروع بوسائل بدائية في الظاهر، لكن بأهداف عسكرية معقّدة في العمق.
هذا التحقيق يستعرض تفاصيل تلك الأنفاق، والمواقع المرتبطة بها، والجهات التي تديرها، كما ينقل أصوات السكان، في مواجهة واقع لا يُرى، لكنه يهدد الجميع.
خريطة أنفاق متعددة المسارات
بدأت أعمال الحفر منذ سنوات، لكنها تسارعت بشكل ملحوظ في العامين الأخيرين. وتتمركز مداخل هذه الأنفاق في نقاط حيوية داخل المدينة، أبرزها:
-
المجمع الحكومي
-
حديقة الرشيد
-
قصر المحافظ
-
المستشفى الوطني
-
ساحة البلدية
-
الجميلي
-
الفردوس
-
الفروسية (الأطراف)
-
البانوراما
-
الفرقة 17
-
الحديقة البيضاء
-
مقر حزب البعث سابقًا قرب نقابة العمال
-
معسكر الطلائع
-
نقطة غير مرئية ضمن منزل سكني في شارع الوادي
إضافةً إلى مواقع جديدة يتم تجهيزها بسرية، بينها منزل سكني في شارع الوادي لا يُعرف مبدؤه ولا عمقه.
حادثة الانهيار في شارع الوادي وسط الرقة… جرس إنذار
في 26 آذار/مارس 2025، وقع انهيار في شارع الوادي وسط مدينة الرقة بعد مرور قاطرة ثقيلة. السكان الذين هرعوا لمعاينة المكان، اكتشفوا وجود نفق ممتد أسفل الطريق، أُكد لاحقًا أنه يعود لعمليات حفر نفذتها “قسد”. رغم مناشدات السكان لإيقاف الحفر، لم يصدر أي رد رسمي، واستمرت العمليات في نقاط أخرى.
من شهادات الأهالي حول شبكة الأنفاق في منطقة البلدية والمستشفى الوطني
“نحن نعيش فوق !”، بهذه العبارة اختصر “ش. ن.”، أحد سكان حي البانوراما، مخاوفه.
يقول لـ سيريا مونيتور:
“بيتي على مسافة أمتار من إحدى نقاط الحفر، أسمع أصوات الرافعة والمولدة ليلاً. لا أستطيع النوم بسبب القلق من أن تنهار الأرض فجأة، كما حدث في شارع الوادي. لا أحد يشرح، ولا أحد يطمئن، ونحن نتساءل إن كنا على وشك أن نُدفن أحياء في مدينتنا”.
في المقابل، يؤكد “ع. ح.” من حي البلدية، أن علامات الحفر واضحة للعيان:
“بمجرد أن تمر قرب نقطة الحفر، تسمع صوت المولدات بوضوح، والرائحة الخانقة للتراب المبلول تخرج من الخيمة. الأمر لم يعد سراً… لكن الناس خائفون من الحديث علناً”.
سيريا مونيتور تمكّنت من الحديث مع أحد العمال السابقين في نفق حديقة الرشيد، والذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية.
“كنت أعمل في الحفر منذ أكثر من ثلاثة أشهر، لكن توقفت منذ نحو شهر. العمل يتم بمعدات بدائية: فؤوس، مجارف، وسطل حديدي ينقل الرمل إلى الأعلى عبر رافعة يدوية صغيرة. لدينا مولدة كهرباء صغيرة تعمل طوال الوقت، وهناك حفارات صغيرة أيضًا، لكنها محدودة الحركة”.
ويضيف العامل أن النفق الذي عمل فيه كان يوصل بين المجمع الحكومي وحديقة الرشيد وقصر المحافظ، ويؤكد أنه جزء من شبكة متصلة تحت المدينة:
“الأنفاق محفورة بطريقة تسمح لشخصين بالمرور جنباً إلى جنب، وهي ليست مجرد ملاذات، بل ممرات عسكرية بحتة، تُستخدم للربط بين مواقع أمنية ومستودعات أسلحة وممرات انسحاب تكتيكية”.
ويؤكد أن إدارة المشروع تتم عبر “متعهدين أكراد”، بينما العمال أغلبهم من “أبناء الرقة”، يتناوبون بشكل دوري.
كما تحدث لـ سيريا مونيتور المهندس المدني فارس الحموي، المختص في البنى التحتية، والذي أبدى قلقه الشديد من تأثير شبكة الأنفاق على سلامة المدينة:
“الرقة مبنية فوق تربة هشة بطبيعتها، والأنفاق التي تُحفر من دون دراسة هندسية أو تدعيم مناسب تشكل خطراً مباشراً على أساسات الأبنية. أي فراغ تحت الأرض قد يؤدي إلى انهيارات مفاجئة، خصوصًا مع تكرار الحفر واهتزازات المولدات المستمرة. نحن نتحدث عن خطر لا يظهر اليوم، لكنه قد يُسجل كارثة بعد أشهر أو سنوات”.
ويؤكد المهندس الحموي أن غياب المسوحات الجيولوجية والرقابة الفنية يجعل الوضع “بمثابة قنبلة موقوتة تحت أقدام سكان المدينة”.
هندسة عسكرية… لا إنسانية
مصادر محلية ترجّح أن الغاية من هذه الشبكة تحت الأرض تتجاوز التحصين الدفاعي، حيث تم ربط مقرات أمنية ومستودعات أسلحة مع نقاط انسحاب طارئة، وهو ما يكشف البعد العسكري الصرف للمشروع.
الأنفاق ليست فقط تحديًا عمرانيًا، بل خطر مباشر على أساسات المدينة. فالتربة الرملية الهشة لا تحتمل فراغات طويلة الأمد، وهو ما يزيد من احتمالات الانهيار، خاصةً مع استمرار التكتم الإعلامي والرسمي.
وبالرغم من تكرار الحوادث والتحذيرات الشعبية، قسد جميع نداءات الأهالي بضرورة وقف أعمال الحفر والأنفاق، خصوصًا بعد حادثة انهيار شارع الوادي. أهالي الأحياء المتضررة، والذين خاطبوا وجهاء محليين وقيادات في “مجلس الرقة المدني”، لم يتلقوا أي رد أو توضيح، بل استمرت أعمال الحفر بشكل يومي في مواقع متعددة. هذا التجاهل زاد من حالة الغضب الشعبي، ورسّخ القناعة لدى السكان بأن هذه الأنفاق تخدم مصالح عسكرية على حساب أمن وسلامة المدنيين.
الرقة اليوم، لم تعد فقط مدينة أنهكتها الحرب، بل باتت مدينة تحفر تحت نفسها، دون علم أهلها، ودون ضمانات لسلامة مستقبلها. في ظل التعتيم الإعلامي وغياب أي رقابة مستقلة، يبقى هذا التحقيق محاولة لتسليط الضوء على ما يُبنى في الظل… قبل أن يسقط الجميع في الظلام.
وفي ظل غياب أي رقابة مستقلة أو تقييم هندسي رسمي، يبرز سؤال جوهري يُردده سكان الرقة بصوت خافت وموجوع : من يضمن سلامتنا؟ من يضمن ألا تنهار منازلنا في أي لحظة؟ ومن يتحمّل مسؤولية ما يحدث تحت الأرض؟ لا توجد لوائح أمان، ولا تقارير فنية، ولا حتى تعهدات علنية من الجهات المشرفة على الحفر. مدينة بأكملها باتت تعيش على شبكة من الأنفاق المجهولة، دون أي ضمان حقيقي يحمي أرواح المدنيين وممتلكاتهم، ما يجعل مستقبل الرقة محفوفًا بالخطر ومعلّقًا فوق فراغٍ عسكري مجهول حفرته ميليشيا قسد.