أسامه الكومه – سيريا مونيتور
يشهد التاريخ السوري واحدة من أكثر مراحله حساسية منذ عقود، مرحلة تتجاوز السياسة بمعناها التقليدي لتدخل في عمق التحول الثقافي والنفسي للسلطة.
فبعد سقوط نظام بشار الأسد وانتقال الحكم إلى أحمد الشرع، لم تعد رموز القيادة مرتبطة بالخطابات السياسية أو المظاهر العسكرية، بل أصبحت تنعكس في تفاصيل الحياة اليومية، في الإشارات غير المباشرة، وحتى في الألعاب التي يمارسها القادة.
ظهور الرئيس الجديد وهو يمارس البلياردو وكرة السلة، في مقابل تقارير تتحدث عن الرئيس السابق المنعزل في موسكو غارقًا في ألعاب الفيديو، خلق مشهدًا مثيرًا للتأمل.
مشهد لا يمكن فصله عن الواقع السوري الجديد، حيث تتبدّل مفاهيم القوة والزعامة، ويتحوّل اللعب من تسلية شخصية إلى رمز سياسي يعكس فلسفة الحكم والقيادة.
تُعرف لعبة البلياردو بأنها لعبة الزوايا المحسوبة، تتطلب هدوءًا وصبرًا وفهمًا عميقًا لمسار الكرة قبل كل ضربة.
هذه السمات تشبه إلى حد كبير ما يحتاجه القائد السوري الجديد في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق.
فبعد سنوات من الفوضى والدمار، باتت البلاد بحاجة إلى قيادة تحسب خطواتها بدقة، وتوازن بين القوى الداخلية والخارجية دون تهور.
من هذا المنظور، يمكن النظر إلى ظهور أحمد الشرع وهو يمارس البلياردو ليس كصورة عابرة، بل كرمز لطبيعة المرحلة السياسية القادمة:
مرحلة تتطلب حسابات دقيقة، لا قرارات مرتجلة.
مرحلة تحاول فيها دمشق الجديدة بناء توازن بين الاستقلال الداخلي والانفتاح الخارجي، في وقت تتشابك فيه المصالح الإقليمية والدولية حول سوريا.
على النقيض من الطابع الفردي للبلياردو، تجسد كرة السلة الروح الجماعية والانسجام بين الأدوار.
ظهور الرئيس الشرع داخل ملعب السلة لم يكن مجرد مشهد رياضي، بل كان — في نظر كثيرين — رسالة سياسية واضحة:
أن القيادة القادمة ستكون تعاونية لا تسلطية، ومفتوحة لا مغلقة.
خلال العقود الماضية، ارتبطت صورة السلطة في سوريا بالفرد الواحد الذي يقرر ويسيطر. أما اليوم، فثمة محاولة لإعادة صياغة مفهوم القيادة على أساس العمل المؤسسي والمشاركة المجتمعية.
تتجلى هذه الرؤية في الرموز الجديدة التي يقدمها النظام، سواء في المشهد الرياضي أو في الخطاب السياسي الرسمي، الذي بدأ يركز على العمل الجماعي وبناء الثقة بين مؤسسات الدولة والمواطنين.
في الوقت الذي تسعى فيه القيادة الجديدة إلى الظهور كجزء من الواقع الشعبي، تُشير التقارير الأجنبية إلى أن بشار الأسد يعيش في عزلة داخل العاصمة الروسية موسكو، يقضي معظم وقته في ألعاب الفيديو.
هذا المشهد، وإن لم تؤكده كل المصادر بشكل قاطع، يرمز بوضوح إلى انسحاب الحاكم السابق من مسرح الأحداث الواقعية إلى عالمٍ افتراضي مغلق.
فألعاب الفيديو تمثل — في علم النفس — مساحة للهروب من الواقع، حيث يجد اللاعب نفسه في عالم يتحكم فيه افتراضيًا بعدما فقد السيطرة عليه فعليًا.
بهذا المعنى، يصبح “اللعب” انعكاسًا لفقدان السلطة، ووسيلة لإعادة إنتاج إحساسٍ مفقود بالقوة، ولو بشكلٍ رمزي.
إنها المفارقة الكبرى: القائد الذي كان يتحكم في مصير بلد بأكمله، أصبح الآن يتحكم في شخصيات رقمية داخل شاشة.
بعد سقوط النظام السابق، دخلت سوريا مرحلة إعادة تعريف الدولة.
التحول لم يكن فقط سياسيًا، بل ثقافيًا أيضًا، إذ باتت القيادة الجديدة تبحث عن رموز جديدة للشرعية، لا تقوم على الخوف أو الصراع، بل على الظهور الإنساني الطبيعي.
لهذا السبب، اختار أحمد الشرع أن يظهر بصفته “إنسانًا طبيعيًا” أكثر من كونه “زعيمًا فوق الناس”.
في هذه المرحلة، بدأت ملامح “سوريا الجديدة” تتشكل عبر ثلاث ركائز أساسية:
1. استعادة الثقة الداخلية من خلال المصالحة الوطنية والشفافية.
2. إعادة بناء العلاقات الخارجية على أساس المصالح المشتركة لا الولاءات القديمة.
3. تحسين صورة القيادة لتكون أقرب إلى الجيل الشاب الذي أنهكته الحرب.
هذه الركائز لا تُترجم فقط في الخطابات السياسية، بل أيضًا في الصور الرمزية — مثل اللعب، الرياضة، والظهور الشعبي — التي تهدف إلى إعادة بناء الجسور النفسية بين الدولة والمجتمع.
من منظور التحليل الرمزي، يمكن قراءة تصرفات القادة بعد التغيير السياسي كنوع من “اللغة البصرية” التي تعكس رؤيتهم للحكم.
البلياردو ترمز إلى الحذر والعقلانية.
كرة السلة إلى الانفتاح والتعاون.
ألعاب الفيديو إلى الانعزال والانكفاء.
هذه الرموز الثلاثة تمثل، في جوهرها، ثلاث مراحل من التحول السياسي السوري:
من حكمٍ فردي مغلق، إلى حكمٍ واقعي تفاعلي، وصولًا إلى محاولة التوازن بين الداخل والخارج.
إنها ليست مجرد ألعاب، بل اختزال بصري لمسار التحول من الماضي إلى المستقبل.
رغم الرمزية الإيجابية للمشهد الجديد، لا تزال سوريا تواجه تحديات كبيرة:
اقتصاديًا: البلاد بحاجة إلى إعادة إعمار شاملة بعد دمار واسع.
اجتماعيًا: المجتمع السوري يعاني من انقسام طويل يحتاج إلى جهد للمصالحة.
سياسيًا: الشرع يواجه معادلة صعبة بين إرضاء الداخل والحفاظ على علاقات متوازنة مع الخارج.
هذه التحديات تجعل من الرمزية السياسية في “اللعب” جزءًا من بناء صورة القيادة الجديدة، لكنها لا تكفي وحدها دون إصلاح فعلي ومستدام.
تُظهر الرموز التي ارتبطت بكلٍّ من الرئيسين، القديم والجديد، ملامح واضحة للفارق في النهج والرؤية.
فـ البلياردو التي يمارسها أحمد الشرع ترمز إلى الهدوء والدقة وحساب المسافات، وهي انعكاس لقيادةٍ تبحث عن التوازن والقرار المدروس في مرحلة انتقالية دقيقة.
أما كرة السلة، فتمثل روح الفريق والتعاون والانفتاح، لتعبّر عن نظامٍ سياسي جديد يقوم على المشاركة والعمل الجماعي بدل الحكم الفردي.
وفي المقابل، ترمز ألعاب الفيديو التي ارتبطت باسم بشار الأسد في تقارير أجنبية إلى العزلة والانكفاء داخل عالمٍ افتراضي، وكأنها تجسيد لحاكمٍ خرج من مسرح الواقع إلى فضاء من السيطرة الوهمية.
بهذا المعنى، تتحول هذه الألعاب من مجرد نشاطات ترفيهية إلى لغة رمزية سياسية تعبّر عن مراحل متباينة من السلطة السورية:
من التحكم الفردي القديم، إلى الإدارة المتزنة الحديثة، وصولًا إلى السعي لبناء هوية قيادية أكثر واقعية وإنسانية.
ما بين البلياردو التي تمثل التخطيط، وكرة السلة التي تعبر عن التعاون، وألعاب الفيديو التي تجسد الانسحاب، ترسم سوريا اليوم لوحة رمزية لتحولها من الجمود إلى الحركة، ومن الانغلاق إلى المشاركة.
القائد الجديد يبدو وكأنه يحاول أن يقول: “اللعبة الآن مختلفة، والملعب مفتوح للجميع.”
وربما تكون هذه المرة الأولى التي تتحول فيها “الألعاب” من رمزٍ للهواية إلى لغة سياسية تعكس روح مرحلة كاملة.
فالقيادة الحديثة لا تُقاس بعدد الخطابات أو الشعارات، بل بقدرتها على قراءة الواقع وتغيير قواعد اللعبة بذكاء وهدوء.
وفي هذا المعنى، يمكن القول إن سوريا ما بعد الأسد بدأت بالفعل تلعب لعبتها الجديدة — لعبة بناء الدولة من جديد.
أسامه الكومه – صحفي سوري مستقل مختص في الشأن السوري المستقل والمحايد.