لا تنتهي غرائب التاريخ ونوادره، نعرف جميعاً عن أطفال ورثوا الحكم من آبائهم مع وصاية أحد القادة أو الأقارب أو حتّى الأمّهات، لكنّ هذه الحالة الفريدة في التاريخ كانت بتتويج جنينٍ في بطن أمّه على رأس إمبراطوريةٍ مترامية ضخمة، هي الإمبراطورية الساسانية.
“أزمة دستورية” توصل شابور الثاني إلى الحكم وهو جنين
قبل وفاة هرمز الثاني بن نرسي، إمبراطور الدولة الساسانية الضخمة، أوصى بالحكم لابنه الجنين، كانت وصيته تُمثِّل مخرجاً لهذا الوضع الغريب، فهو لم يلبث في الحكم أكثر من سبع سنوات، وليس له وريث، والنبلاء أو “العظماء” في الدولة يناسبهم هذا الوضع، فمن خلال جنينٍ غير معلومٍ حتّى ما إذا كان سيصل لهذه الدنيا أو لا، من خلاله يمكنهم حكم الدولة مترامية الأطراف.
في ذلك الزمان كانت الدولة الساسانية في إيران وما حولها والإمبراطورية الرومانية هما قطبي العالم، وقد خسر والد شابور وجدّه الكثير من نفوذهما أمام الإمبراطورية الرومانية (البيزنطية). ويمكنك القراءة بالتفصيل عن الساسانيين من تأسيس الدولة وحتى سقوطها، من هذه المادة.
اجتمع النبلاء الفرس، وقرروا تتويج هذا الجنين على أن يديروا هم الإمبراطورية، وبالفعل، تمّ تتويج شابور الثاني قبل أن يولد عام 309، وفي مراسم التتويج وضعوا تاج الملك على بطن أمّه الحامل.
وعند ولادته بعدها بشهور، أصبحت أمّه هي الوصيّة عليه بمساعدة النبلاء طبعاً، والذين عادةً ما تكون مفاتيح الدولة في أيديهم، وبطبيعة الحال، فإنّ الدولة قد ضعفت وملكها طفلٌ رضيع لا يُحسن أن يقوم بأي فعلٍ لنفسه، ناهينا عن إمبراطوريته الواسعة.
شابور الثاني يتعلّم الدرس سريعاً
عادةً ما يكون الأطفال الذين وجدوا أنفسهم ملوكاً أو سلاطين بهذه الطريقة الغريبة، غالباً ما يكونون أقرب للاسترخاء والرفاهية، مبتعدين عن السياسة، فغالباً ما تغلب عليهم أمهاتهم أو قادة الدولة، لكنّ شابور الثاني كان استثناءً في هذا الأمر أيضاً، كما كان استثناءً تاريخياً في قصة تتويجه على الدولة الساسانية.
ما إن شبّ شابور الثاني حتّى بدأ يأخذ زمام الأمور في دولته، فاستطاع تنحية أي منافسين له من النبلاء، وحاول أن يعيد ما أُخذ من ملك والده وجدّه من قبله.
ليس هناك تفاصيل كثيرة عن أول ثلاثين عاماً من حياة شابور، لكنّ المدونات التاريخية لديها تفاصيل ما حدث بعد ذلك.
ويذكر لنا ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” مشهداً في حياة شابور يعتبر هو المشهد المعبِّر عن شخصيته منذ كان صغيراً. فعندما بدأ شابور يدرك الأشياء من حوله، سمع يوماً ما صخباً وضوضاء، فلما سأل عنها أخبره الخدم أنّه جسر ويمر عليه الناس يومياً، فأمر بعمل جسرٍ آخر، ليصبح أحد الجسرين للقادمين وآخر للراحلين.
يذكر ابن الأثير هذه القصّة للتدليل على نباهته الفطريّة. ويبدو أنّ شابور الثاني كان نبيهاً بالفعل، وقد حكم 70 عاماً، وهي عدد سنين عمره بالطبع، بسبب تتويجه وهو جنين. وقد ترك شابور لخلفائه إمبراطوريةً قوية استطاعت فرض نفسها من جديد بعد هزائم أبيه وجدّه، فاستطاع استعادة ما أخذ من دولته، كما صدّ هجمات قبائل الهون في الحدود الشمالية الشرقية.
شابور الثاني، ولقب “ذي الأكتاف”
أشهر لقب لشابور الثاني في المدونات العربية هو شابور ذو الأكتاف، ولهذا قصة، ولكن قبل أن نحكي سبب هذا اللقب علينا أن نذكر قصةً أخرى.
في فترة شباب شابور الثاني، بعدما قضى على منافسيه الداخليين ومراكز القوة في الدولة، بدأ تحركاته للسيطرة على بعض مناطق الإمبراطورية الرومانية، تحرّك القيصر الروماني يوليان لردّ القوات الفارسيّة، استطاع يوليان أن يوقع هزيمة بسيطة بالقوات الفارسية، وكان قد ضمّ إلى جيشه بعض القبائل العربية من العراق والشام.
فعندما ضعفت الدولة الساسانية، طمعت بها القبائل العربية في الجنوب والغرب وبعض القبائل التركية في الشمال، إضافةً إلى الروم.
بدأت بعض القبائل العربية تغير على بعض الأماكن الفارسية وتستولي على الممتلكات، وهنا انتقم منهم شابور وقتل العديد من قادتهم، ولهذا انضمت قبائل عربية للقيصر الروماني يوليان.
لكنّ ما حدث بعد ذلك أن قُتِلَ يوليان فجأةً وهو جالس في خيمته بسهم، وهنا اضطرب الجيش الروماني وعينوا جوفيان إمبراطوراً جديداً. كان شابور وجوفيان بينهما رسائل وودّ، فبعث شابور لقادة الرومان بعد وفاة يوليان أنّه سيحاربهم حتّى يُفنِي جيشهم وهم مضطربون بسبب مقتل امبراطورهم.
كانت هذه الخطوة ليستطيع جوفيان أن يسيطر على الوضع ويخرج من الموقف بهدنة واتفاق، ومن خلال هذه الهدنة استطاع شابور أن يعود لمدينة نصيبين (مدينة ماردين في تركيا الحالية) التي كانت تحت الحكم الساساني لفترة من الزمن قبل أن يأخذها البيزنطيون.
عندما انسحب الجيش البيزنطي تفرّغ شابور للقضاء على التهديد العربي ممثلاً في بعض القبائل العربية التي أغارت على حدود مملكته، فكان يخلع أكتاف قادتهم الذين تمكّن منهم، ومن هنا جاء لقب “ذو الأكتاف” الذي عُرف به في التاريخ العربي، وفق ما ذكره الطبري في كتاب “تاريخ الأمم والملوك”.