منصور حسين
لا تتوقف صور “قيصر” عن صدم السوريين مرة بعد أخرى، فبعد مشاهد التعذيب المروعة التي أظهرتها، وطرق القتل الوحشية التي كشفت عن قيام مخابرات النظام وأجهزته الأمنية بارتكابها في حق المعتقلين، كانت المفاجأة الأخيرة ظهور مفقودين كانوا قد اختطفوا من مناطق سيطرة المعارضة بين الدفعات الأخيرة من الصور التي تم نشرها من مجموعة الشاهد المنشق “قيصر”.
الشاب محمد نور عيد، طالب شريعة ودراسات اسلامية، وأحد المشاركين الأوائل في المظاهرات ضد النظام، اختطفته مجموعة مسلحة من داخل “مسجد البتول” في حي الأنصاري الشرقي بمدينة حلب، الذي كان خاضعاً لسيطرة فصائل المعارضة وتنظيم “داعش” عام 2013، ومنذ تلك اللحظة حتى الأمس القريب، كان الجميع واثقاً من أن “داعش” هو المسؤول عن اختطافه مع عدد من ناشطي الحي.
سلوك “داعش”
لم تأتِ هذه القناعة من فراغ، فمنذ ظهور تنظيم “داعش” في سوريا بداية من ربيع عام 2013، بدأت عمليات اختطاف واغتيال الناشطين والثوار المناهضين لفكره، بمن فيهم العلماء والمشايخ من التيارات المخالفة للسلفية. وعلى اعتبار أن محمد نور عيد من المشايخ الشباب الذين يحظون بمحبة أبناء الحي، ومن أصحاب الفكر الوسطي المعتدل، فإن الجميع اعتقد جازماً بوقوف “داعش” وراء عملية اختطافه مع الشبان الآخرين.
وإلى جانب ما سبق، وبعد مرحلة من الاستقرار الأمني الجيد التي عرفتها حلب “المحررة” بين أواخر عام 2012 وبدايات عام 2013، شهدت هذه المناطق منذ نيسان/أبريل من ذلك العام انفلاتاً أمنياً كبيراً، وتفشى الخطف والاعتقال التعسفي الذي بدأت تمارسه كثير من الفصائل، ما وفر ظروفاً ملائمة لظاهرة المسلحين المجهولين، ومجموعات الملثمين الذين باتوا يجوبون شوارع المدن والبلدات الخاضعة لسيطرة المعارضة من دون رادع، ناشرين حالة من الهلع لم يتم وضع حد لها إلا بعد وقت متأخر جداً.
طالت حملات الخطف والاعتقال والاغتيال مئات الناشطين والصحافيين والعاملين في قطاع الإغاثة والصحة وخطباء مساجد، وضباط منشقين، بالإضافة إلى حقوقيين. ولم تكن هذه الظاهرة مقتصرة على حلب وحسب، بل شملت مختلف المدن والأرياف التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة في جميع أنحاء سوريا.
ومثل معظم ذوي المختطفين من هذه المناطق في تلك الفترة، فقد راجع ذوو الشاب محمد عيد تنظيم “داعش” مرات كثيرة لمعرفة مكان اعتقال إبنهم ومصيره، لكن قادة التنظيم ومسؤولي السجون لديه أنكروا أن يكون معتقلاً لديهم، وأكدوا أنهم لم يقوموا بأي عملية أمنية ضد المجموعة المفقودة من مسجد البتول في حي الأنصاري، لكن وبسبب مئات التجارب الأخرى مع “داعش” التي كان ينكر فيها علاقته باختفاء أشخاص، يظهر لاحقاً أنه هو من اختطفهم أو اغتالهم بالفعل، فقد استسلمت عائلة محمد نور للواقع المرير بانتظار لحظة فرج لطالما بقي بصيص أملها ينوس.
النظام ليس بريئاً
بصيص أمل بوجود الشاب المختطف على قيد الحياة كان يتضاعف في كل مرة يتم فيها التأكد من عدم وجود اسمه أو جثته أو ما يدل عليه في أي من المقابر الجماعية التي كان يتم الكشف عنها في المناطق التي كان يُطرد منها تنظيم “داعش” على مدار السنوات السبع الماضية، وآخرها بلدة الباغوز بريف دير الزور الشرقي، التي كانت آخر معاقل التنظيم في سوريا وخرج منها بداية عام 2019.
لكن ما لم تتوقعه عائلة عيد، والشيء الذي كان آخر ما يمكن أن تقتنع به أن يكون النظام هو من اعتقل ابنها، بل إن ذويه رفضوا تصديق اتصالات وردتهم من مجهولين فور اختطافه، أبلغوهم فيها أنهم من مخابرات النظام وأن ابنهم بات معتقلاً عندهم، ورغم عدم تصديقهم هذه الادعاءات، إلا أنهم أبدوا استعدادهم لدفع المبلغ الذي يطلبه المتصلون من أجل تأمين عودة محمد وزملائه المختطفين، لكن الردود كانت تأتي متلاعبة، ما عزز الشكوك بأصحابها وبروايتهم.
لم يظهر أي شخص اُختطف من مناطق سيطرة المعارضة في معتقلات النظام أو على إعلامه أو بين صور ضحاياه على مدار سبع سنوات، ورغم أن المتهم لم يعد تنظيم “داعش” وحده فقط، بل فصائل سلفية كثيرة أخرى انضمت لقائمة ممارسي الانتهاكات، وعلى رأسها عمليات الخطف والاغتيال، إلا أن النظام ظل مستبعداً من دائرة الاتهام في ما يتعلق بجرائم الاختطاف التي كانت تحدث في مناطق سيطرة الفصائل، ومن ضمنها “داعش”.
لكن الصدمة حدثت قبل أيام فقط، عندما أعلنت أسرة الشاب محمد نور عيد التعرف على صورة ابنها المفقود منذ عام 2013 ضمن الدفعة الأخيرة المسربة من مجموعة صور “قيصر”، الأمر الذي أعاد طرح الكثير من الأسئلة وفتح الباب على احتمال جديد كان مستبعداً من قائمة التفكير في ما يخص المتهمين بالوقوف خلف هذا النوع من الجرائم التي وقعت في مناطق سيطرة المعارضة.
فحادثة اختطاف عيد لم تكن سوى واحدة من آلاف الحالات التي شهدتها المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي بدأت في حلب مع حادثة اختطاف الدكتور والخبير الإقتصادي عبد الرؤوف كريّم نهاية عام 2012، من داخل منطقة البحوث العلمية التي كان مسؤولاً عن حمايتها وتأمينها قرب حي طريق الباب شرق مدينة حلب، وقد كانت أول حادثة اختطاف تطاول شخصية معارضة ذات ثقل مدني وسياسي من مناطق سيطرة “الجيش الحر”.
اختفى كريّم نهائياً منذ تلك اللحظة، ولم تكن “داعش” قد ظهرت بعد، وحتى قريبتها “جبهة النصرة” لم تكن قد بدأت بتنفيذ ممارسات من هذا الشكل، ومع ذلك كانت الاتهامات مقسمة بين النظام وبين “النصرة” التي لم يستبعد الكثيرون وقوفها خلف اختطاف أو تصفية كريّم نظراً لما تحمله شخصيته من أهمية سياسية ومدنية، وكذلك بسبب الاحترام الكبير الذي كان يحظى به لدى جميع ناشطي المدينة، ما اعتُبر أنه يمكن أن يشكل عائقاً لمخطط سيطرة “النصرة” على مدينة حلب.
الشكوك بالتنظيمات المتولدة من “القاعدة” بالوقوف خلف عملية إخفاء كريّم تزايدات بعد مبايعة عناصر كثر من “لواء شهداء الثورة” الذي كان يسيطر على منطقة البحوث، لتنظيم “داعش” فور ظهوره، واكتشاف وجود قياديين في الفصيل ضمن الدائرة الأمنية للتنظيم، ومنهم قياديون في كتيبة “التوافق” المتهم الأبرز في حادثة اختطاف كريّم، وتعتبر أيضاً من الكتائب التي سهلت عملية سيطرة “داعش” على البحوث العلمية وتحويلها إلى أهم وأكبر معاقله في حلب.
لكن رغم كل جهود البحث والتقصي والمتابعة والتحقيق التي قامت بها قوى مدنية وعسكرية في المعارضة، سواء بشكل علني من خلال التواصل مع “جبهة النصرة” “ولواء شهداء الثورة” أو من خلال التحقيق مع قادة وعناصر من الجبهة واللواء ومن “داعش” حول الدكتور كريّم، ومع خسارة التنظيم جميع مناطقه ومراكز الإعتقال وعدم وجود أي دليل حقيقي يشير إلى ضلوعه بحادثة الاختطاف هذه، تجددت الشكوك بمسؤولية النظام عن اختطافه.
شكوك باتت أكثر إلحاحاً اليوم مع اكتشاف صورة الشيخ الشاب محمد نور عيد بين الجثث التي وثقتها كاميرا “قيصر” ما يعيد فرضية وقوف النظام خلف الكثير من عمليات الاختطاف والتغييب التي لطالما بقي “داعش” المتهم بتنفيذها بسبب وقوعها في مناطق يسيطر عليها، بما فيها تلك الحوادث التي ذهب ضحيتها ناشطون وأسماء كبيرة في مختلف قطاعات العمل الثوري، سواء في التوثيق أو الإغاثة أو الإعلام أو العمل السياسي.
المصدر: المدن