في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تتوسع شرقاً وغرباً في عهد السلطان سليمان القانوني، كانت شمال إفريقيا تتعرّض إلى حملاتٍ مُدمِّرة على المدن والموانئ من قبل الإمبراطورية الرومانية على يد إمبراطورها شارلكان، أو كارل الخامس. وذلك عقب سقوط الأندلس. وقد كانت الجزائر في مركز هذه الحملات.
يروي المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية” أنه في عام 1541 عزم شارلكان ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية أن يسيطر على الجزائر التي كانت مقراً للأسطول العثماني الذي روّع أوروبا عبر سيطرته على البحر المتوسط من صقلية شرقاً حتى جبل طارق غرباً، تحت قيادة خير الدين بربروس باشا، الذي أسند له السلطان مهمتين، هما: القيادة العامة للقوات البحرية العثمانية بأسطولها البحري، وذلك للسيطرة على البحر المتوسط، والثانية: تسيير شؤون منطقة غرب الجزائر.
بدوره أوكل بربروس شؤون الجزائر للقائد البحري حسن أغا، والذى كان يحافظ على السيطرة العثمانية على البحر المتوسط بأكمله، حيث كانت لا تدخل أي سفن إلى البحر المتوسط إلا بإذنه.
البابا يحذر وشارلكان يجمع الأسطول
في ذلك الوقت كان السلطان سليمان القانوني في حملةٍ كبيرة لفتح المجر، كما كان خير الدين بربروس باشا متوجهاً إلى ساحل البحر الأدرياتيكي لتأديب الأسطول الإسباني الذي ألقى بثقله في البحر المتوسط لتحجيم الأسطول العثماني.
وفي هذه الأجواء، استغلّ شارلكان انشغال كل من سليمان القانوني في المجر وخير الدين بربروس في البحر الأدرياتيكي، وتوجّه إلى الجزائر بنيّة السيطرة عليها ووضع حداً للسيطرة العثمانية على البحر المتوسط، والتي كانت تمثل الجزائر قاعدته. فيما عرف في كتب التاريخ بـ”حملة شارلكان على الجزائر”.
وبالرغم من أن بابا الفاتيكان والقائد البحرى المرتزق “أندريا دوريا” قد حذرا الإمبراطور شارلكان ونصحاه بتأجيل الحملة لاقتراب فصل الشتاء، فإنه قال لهما: “إن هذا الأمر لن يأخذ مني أكثر من 40 إلى 50 يوماً”، كما ذكر المؤرخ التركي فريدون أمجان في كتاب “سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين“.
تحرّك الإمبراطور بنفسه من ألمانيا في جيشٍ مكون من 36 ألف جندي متجهاً إلى تيرول (غربي النمسا) ثم إلى إقليم لومبارديا (شمال إيطاليا)، ووصل إلى لاسبيتسيا (شمال غرب إيطاليا) فى أغسطس/آب من عام 1541، وهناك كان ينتظره الأسطول، ومنها قاد الإمبراطور الأسطول إلى بورتوفينيرى، التى يتواجد بها أسطولٌ آخر تحت قيادة القائد الإيطالي المرتزق أندريا دوريا، بعد أن سمح له البابا بالذهاب مع الإمبراطور بعد أن رأى إصراره في الذهاب إلى الجزائر.
ركب الإمبراطور كارل الخامس سفينة القائد دوريا، وأبحر الأسطول حتى وصل إلى جزيرة ميورقة (إحدى الجزر التابعة لإسبانيا) التي كانت تمثل التجمُّع الرئيسي لسفن الأسطول، الذى تحرك بها متجهاً إلى الجزائر.
حملة شارلكان على الجزائر
وفقاً لما ذكره يلماز أوزتونا في كتابه، فقد كان الأسطول الإمبراطوري مكوناً من 65 سفينة كبيرة و516 قطعة بحرية.
بدأ الأسطول الإمبراطوري يلوح في أفق الجزائر في 20 أكتوبر/تشرين الأول عام 1541. وعند وصولهم أمر الإمبراطور بإنزال 25 ألف جندي إلى شواطئ الجزائر، بينما كان حسن أغا يترأس 2600 جندي فقط.
كان حسن أغا بمثابة ابن لخير الدين بربروس، فقد أسره في إحدى هجماته على إيطاليا، وجعله يخدم في بيته ودخل في تربيته حتّى أصبح أحد قادته الكبار الذين يعتمد عليهم. وفي هذه اللحظة، كان حسن أغا نائباً عن بربروس في الجزائر.
بعد إنزال جنود الإمبراطور شارلكان إلى البرّ تعرضوا لهجومٍ قاسٍ ومباغت من قوات حسن أغا حتى فقد الجيش 3 آلاف جندي أثناء الإنزال ودخول الشريط الحدودي فقط.
صدرت أوامر الإمبراطور بفرض الحصار على الجزائر، وإنزال المدافع الثقيلة إلى السواحل وتثبيتها. وبينما كان جيش الإمبراطور يقوم بإنزال المدافع، بدأت الأمطار تهطل بغزارة، مما وضع القوات التي كانت على البر وتلك التى كانت فى البحر فى مأزق، فقد بدأ الجنود يشعرون بالبرد القارس ويرتعدون بسبب الرياح التي واجهوها بملابسهم المبلَّلة.
شجعت هذه الظروف حسن أغا على أن يفتح أبواب القلعة التي كان يعسكر فيها، حيث أطلق قواته في الصباح الباكر فهاجمت جزءاً من معسكر جنود الإمبراطور، ففرّ هؤلاء الجند من أرض المعركة، إلا أن أحد القادة سارع لنجدة الجنود وحاول تشجيعهم وتحفيزهم على خوض المعركة، فتناول الجنود بنادقهم لمواصلة المعركة. لكن البنادق لم تعمل نظراً لابتلال البارود بالماء.
اضطرّ الجنود في نهاية الأمر إلى المواجهة بالسيوف والحراب والسهام، وفي هذه الأثناء انسحبت القوات العثمانية متّجهةً إلى القلعة التي يتمركز فيها حسن أغا، وانطلقت فرقة من جيش الإمبراطور وراء الجنود المسلمين حتى مشارف القلعة، ففوجئوا بوابلٍ من قذائف المدفعية من أبراج القلعة، ثم اندفعت القوات العثمانية لقتالهم مرة أخرى، مما دمر معظم قواتهم. وهكذا كان حسن أغا بجنوده القليلين يقود المعركة في عمليات كرِّ وفرٍّ مرهقة لجيش العدوّ.
فر الجنود الذين تبقوا من هذا الهجوم بعدما أُصيبوا بهزيمةٍ كبرى، وحينما رأى حسن أغا جنود شارلكان وهم يفرّون أمر قواته بتتبعهم. تمركز الجنود في الأماكن المرتفعة المنيعة التي كانت تطل على أرض المعركة وأمطروا قوات الإمبراطور بوابلٍ من السهام وألحقوا بهم خسائر جسيمة، مما عرَّض جزءاً كبيراً من جنود الإمبراطور لهزيمة معنوية، فألقوا سلاحهم وفروا هاربين.
الإمبراطور شارلكان يدخل المعركة
حينما رأى الإمبراطور هذا المشهد، استلّ سيفه وامتطى جواده ودخل أرض المعركة، لتشجيع جنوده على القتال. عندها انسحب الجنود العثمانيون مرة أخرى، وما إن وصل الإمبراطور وجنوده إلى أرضٍ خالية متعقباً لقوات حسن أغا، حتّى فوجئوا بالمدافع العثمانية تقصف قواتهم، ما أجبرهم على الانسحاب.
وفي هذه الأثناء كانت قوات الإمبراطور قد أنزلت المدافع والذخيرة على البر، إلا أنّ رياحاً شديدة قد هبَّت وتعالت الأمواج في البحر، وبدأت السفن بالتخبط ببعضها وانجرف جزءٌ منها إلى الساحل بعدما انكسرت سلاسل المراسي.
وفي حوالي 6 ساعات غرقت 50 سفينة من أسطول شارلكان، كما فقد الأسطول 12 ألف جندي كانوا على متن هذه السفن. وبعد توقُّف هطول الأمطار، بدأ جيش الإمبراطور يعاني من نقص الغذاء والعتاد من مدافع وذخائر؛ لأنه قد غرق جزء كبير منها فى أعماق البحر.
على إثر ذلك، اجتمع الإمبراطور بقيادة مجلس الحرب، فاقترح أندريا دوريا الانسحاب والتوجه إلى رأس ماتيفو عند مدينة الدار البيضاء لرد الكرّة ومعاودة الهجوم على العثمانيين مرة أخرى، فوافق المجلس بإجماع الآراء، وبدأ الانسحاب يوم الجمعة 28 أكتوبر/تشرين الأول.
عندما رأى حسن أغا هذا الانسحاب خرج على رأس قوةٍ وراء جيش الإمبراطور. كانت الأمطار تهطل، وامتلأت الطرق ببرك مياه الأمطار، ما أتعب جنود الإمبراطور الذين لم يتعوّدوا بعد على هذه الأجواء، والذين مروا بدورهم على وادى الكمين، وكان هذا الوادي ممتلئاً بالمياه، حتى عبرته قوات الإمبراطور سباحةً.
عانى الجنود أكثر حينما وصلوا إلى وادي الحراش والذي كان ممتلئاً بالمياه الهائجة حتى غرق بعض الجنود.
وعند مؤخرة الجيش، أدرك حسن أغا جنود الإمبراطور وقتل جزءاً منهم، في حين ألقى الجزء الباقي بنفسه في الماء وماتوا غرقاً بعد أن أنهكتهم السباحة، واستطاع القليل منهم العبور إلى الضفة المقابلة من الوادي، ولم يريد حسن أغا التقدم أكثر من ذلك فعاد إلى قلعته.
اجتمع الإمبراطور بمجلس الحرب مجدداً فى 30 أكتوبر/تشرين الأول وتشاور مع قادة الجيش، وفي نهاية الاجتماع اتخذ الإمبراطور قراراً بإنهاء حملته على الجزائر، وانسحاب الجنود إلى السفن والرجوع إلى البلاد، إلا أن نقل الجنود للسفن شكَّل مشكلة بسبب ثِقَل ما يحملون، فألقوا بأسلحتهم ومدافعهم وذخائرهم وحتى خيولهم فى البحر لتخفيف الحمل عن السفن.
وبينما هم على هذه الحالة، إذ هبت عاصفةٌ أخرى شديدة أدت إلى انجراف عددٍ من السفن إلى الشاطئ وهي تحمل على متنها الجنود، فأمر الإمبراطور بترك السفن بما تحمل من جنود، والإبحار بالسفن الأخرى، فأسر أهل الجزائر كل من كان بالسفن التي على الشاطئ، وقد استطاع الإمبراطور الرجوع إلى إسبانيا بما تبقى له من سفن بصعوبة بالغة.
يقول المؤرخ يلماز أوزتونا إنّ الإمبراطور شارلكان وهو في طريقه عائداً إلى بلاده، بكى من شدة تأثره بهذه الخسارة الفادحة، وألقى بتاجه في البحر وذبح جواده الذي لا يُقدَّر بثمن وجعله طعاماً على ظهر سفينته. وبغضّ النظر عن صحّة هذه الرواية من عدمها، فقد كانت حملة شارلكان على الجزائر من أفشل الحملات الحربية.
وبعد الحادث بشهر واحد حضر القائد خير الدين بربروس إلى الجزائر عائداً من غزوته في البحر الأدرياتيكي، وربما تفتح عودته الخيال على مصراعيه: ماذا لو كان هذا القائد الفذّ موجوداً في مواجهة شارلكان؟ ربما تمكّن من أسر الإمبراطور شارلكان شخصياً.
ولم تتمكن أي قوة بعد ذلك من التفكير في الهجوم على الجزائر حتى عام 1830 احتلّت فرنسا الجزائر، ليبدأ فصلٌ آخر من النضال الجزائري ضدّ المستعمر الفرنسي.
لكنّ حسن أغا وجنوده سجّلوا وجودهم في كتاب التاريخ، فهذه الحامية الصغيرة التي لم تتجاوز 3 آلاف جندي، استطاعت ردّ جيش أعظم ملوك أوروبا في ذلك الزمن، شارلكان الخامس، الذي كان عشرة أضعاف الحامية العثمانية الصغيرة المتمركزة في الجزائر.