تكشف العمليات العسكرية التي تُجريها قوات نظام الأسد والميليشيات الموالية لها بدعم روسي من جهة و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بدعم من القوات الأميركية في الجهة المقابلة، على جانبي نهر الفرات، حجم النشاط الذي يبديه تنظيم “الدولة”، لجهة كثافة عملياته وتنوع هجماته، إلا أن اللافت في ذلك هو استخدامه مؤخرا طريقة واحدة في قتال الجهتين.
فالصور التي تنشرها المنصات الإعلامية لقوات النظام و”قسد” ورصدها موقع تلفزيون سوريا، أظهرت اتباع التنظيم أسلوب الأنفاق في الاختباء وشن الهجمات، وهو أسلوب قديم يجدده التنظيم مع مقتضيات الحاجة، فنراه ابتعد عن استخدامه لـ الأنفاق عندما كان يسيطر على مساحات واسعة في العراق وسوريا تحديدا في مناطقها الشرقية والجنوبية، حيث كانت هجماته تحدث في أماكن مفتوحة ووجها لوجها مع عدم استثناء السيارات الملغمة في تلك الهجمات كما جرى في الرقة ودير الزور وتدمر.
نهاية عام 2017، بدأت سلسلة هزائم التنظيم، بعد تكاتف روسي وأميركي غير معلن لهذا الغرض، ففقد التنظيم درعا والرقة وتدمر ودير الزور، ثم قُتل زعيمه “أبو بكر البغدادي” والمتحدث السابق باسمه “أبو حسن المهاجر” في سوريا، في تشرين الأول 2019 بقصف أميركي. وخسر آخر بقعة جغرافية كان يسيطر عليها بسوريا، لكن وبعد امتصاصه لهذه الصدمات خلال الأشهر الأخيرة من عام 2019، ومع الظهور الصوتي الأول لـ متحدثه الجديد “أبو حمزة القرشي” عاد مجددا إلى سياسته المعهودة عندما كان فتيا في العراق، لينتشر في البوادي متأقلما مع إمكانياته المحدودة التي يستطيع تسخيرها في عملياته بتلك المناطق ذات الصفات الخاصة بالقتال، لجهة طبيعتها المختلفة عن المدن.
في مناطق “قسد”.. حملات أمنية فوق الأرض لا تحد من هجمات التنظيم
منذ إعلانها “هزيمة” تنظيم “الدولة” في سوريا، شنت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية و”قسد” عشرات “الحملات الأمنية” خلال عامي 2019 و2020 وحتى النصف الأول من 2021، بهدف محاصرة نشاط التنظيم الذي عاود بعد هزيمته في قرية الباغوز بريف دير الزور الشرقي في 23 آذار 2019، الظهور على شكل هجمات فردية يُطلق عليها مختصون عسكريون بـ “الذئاب المنفردة”، تكون على شكل متباعد في الزمان والمكان، وذلك لفقدان التنظيم السيطرة المركزية لإدارة مثل تلك الهجمات.
هذه الحالة اختلفت بعد أن أعاد التنظيم ترتيب صفوفه بشكل أكبر إثر تعيين زعيم جديد له (أبو أبراهيم الهاشمي) في كلمة صوتية للمتحدث الجديد “أبو حمزة القرشي” نهاية تشرين الأول 2019.
في هذه الكلمة أعطى “القرشي” لخلايا التنظيم شارة البداية للعودة للعمل بطريقة منظمة ومركزية، وسلمهم عبر كلماته أولويات العمل ومفاتيحه في سوريا والعراق ودول أفريقية، ومنذ ذلك الحين، بدأ التنظيم بتوسعة قاعدة بيانات استهدافاته لتشمل العسكريين والعاملين معهم من المدنيين في مناطق شمال شرقي سوريا، وصار له يوميا بيان أو اثنين تكشف عن عملياته وأسماء المستهدفين وصفاتهم من “قسد”، وبدأ بإصدار بيان أسبوعي وشهري وآخر سنوي لحصيلة تلك العمليات.
اليوم يتطلع التنظيم وفق ما يرصده موقع تلفزيون سوريا، إلى تثبيت الوضع الراهن لشكل عملياته شمال شرقي سوريا، ويتجلى ذلك في حفره أنفاقا كشفت عنها “قسد” مؤخرا بالقرب من منطقة العزبة بريف دير الزور الشمالي، حيث يبدو أن التنظيم يعمل على استراتيجية طويلة الأمد فـ “قسد” تقول إنها عثرت على “مخبأ للأسلحة ونظام أنفاق واسع”.
هذا التطور في منطقة شمال شرقي سوريا، تزامن مع بدء التحالف الدولي التفكير بطريقة أخرى للحد من نشاط التنظيم، حيث شرع في إعلان مكافآت مالية يسلمها للذين يدلون بمعلومات عن خلايا التنظيم، بعد اقتناعه بفشل فكرة الحملات الأمنية التي تسوّق لها “قسد”.
وفي اجتماع روما الذي عقد نهاية حزيران الماضي، أقر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن استمرار نشاط التنظيم، وأكد أن أولويات التحالف حاليا تتمثل في مواجهة ما بقي من تنظيم “الدولة” بسوريا والعراق. وقال “نحتاج إلى زيادة الدعم المالي المقدم لتلك المناطق”، في حين قال المبعوث الأميركي للتحالف الدولي، خلال مؤتمر روما حول التنظيم “جهود التحالف عطلت أنشطة تنظيم الدولة شمال شرقي سوريا” مؤكدا في الوقت ذاته أن التنظيم ما زال نشطا هناك.
أما وزراء خارجية التحالف فأكدوا في بيانهم استمرار تهديد تنظيم “الدولة” رغم خروج الأراضي عن سيطرته في سوريا والعراق، وبحسب البيان فإنّ تزايد نشاط تنظيم الدولة يستدعي مواصلة الحذر وتنسيق العمل، ويشمل ذلك تخصيص موارد كافية لمساندة التحالف وجهود القوات الشريكة ضد التنظيم.
وتمثّل منطقة العزبة التي عثرت “قسد” فيها على الأنفاق مكانا مناسبا للتنظيم إذ تعد غير مأهولة بالسكان إذا ما قارنها بباقي مناطق شمال شرقي سوريا، وفي حديث سابق لموقع تلفزيون سوريا، استبعد الباحث حسن أبو هنية المتخصص بالحركات الجهادية، أن يكون عند التنظيم نية لإعادة فرض السيطرة المكانية بالمطلق في المناطق التي ينشط بها، معتبرا أن الظروف الموضوعية لا تساعد التنظيم على ذلك، وأنه -أي التنظيم- يدرك ذلك أنه لا يمتلك القدرات البشرية ولا التسليح المناسب لتنفيذ ذلك، ما يعني اعتماده على الطرق الكلاسيكية له في القتال كالأنفاق.
ويعزز رأيه بالاستناد إلى ما أعلنه التنظيم من استراتيجية للعمل في مرحلة ما بعد الانهيار، والتي أطلق عليها التنظيم اسم “حرب الاستنزاف”، وقد أعلنها بعد نهاية سيطرته على آخر جيب له في بلدة الباغوز في ريف دير الزور في آذار 2019، ومع وصول قيادته الجديدة المتمثلة بـ “أبو ابراهيم الهاشمي”.
وتقوم استراتيجية الاستنزاف على حرب عصابات بأسلوب الكر والفر، ويقول أبو هنية إن هذا الجزء من استراتيجية التنظيم يسمى “إسقاط المدن مؤقتاً” بمعنى أنه قد يدخل ينفذ عمليات ومن ثم ينسحب.
البادية ثقب أسود يبتلع مرتزقة روس وميليشيات النظام
في البادية حيث روسيا ونظام الأسد، يمتاز التنظيم بنشاط أكبر منه في شمال شرقي سوريا، فهناك منطقة مفتوحة لا تضم قرى ومدنا مأهولة كالتي في ضفة النهر المقابلة، لكن تشترك البادية مع مناطق “قسد” في أسلوب الأنفاق.
ويبدو أن التنظيم يعتمد بشكل رئيسي على هذا التكتيك ويجيد استخدامه، نظرا للبيانات اليومية التي تنشرها وكالة “أعماق” عن مهاجمته عناصر النظام والميليشيات الموالية وحتى الجنود الروس.
ووفق رصد لموقع تلفزيون سوريا، فإن أهم الأنفاق التي يمتلكها التنظيم تقع بالقرب من منطقة السخنة، وهذا ظهر جليا في نيسان الماضي، عندما تمكن عناصر التنظيم من استهداف طائرة مروحية روسية كانت تحاول إنزال جنود روس في المنطقة لتمشيطها، إلا أنهم تفاجؤوا بخروج خلايا التنظيم من أحد الانفاق وإطلاقهم الرصاص بشكل مباشر على المروحية، وتحدث بيان للتنظيم عن مقتل عدد من الجنود الروس، في حين لم تعترف موسكو بذلك.
وبعد هذه الحادثة نشرت وكالة “RVVoenkor” الروسية التي ترافق الجيش الروسي في عملياته العسكرية في سوريا، تسجيلا مصورا قالت إنه لتدمير مقر “القيادة المركزي” لتنظيم “الدولة” في البادية.
وقالت إن مركز قيادة التنظيم يقع قرب حمص في إشارة إلى بادية السخنة، وزعمت أن المقر يضم كميات كبيرة من الذخائر وأنها “دمرته” عبر طائرتي SU-34 و SU-24 M، كما أكدت أنه يضم أنفاقا وقاعات وكهوفا.
ورغم حملتها العسكرية على التنظيم في البادية منذ آذار الماضي، والتي من خلالها تشن روسيا هجمات جوية على مناطق تقول إن التنظيم يتحصن بداخلها، كما تعلن عن حملات عسكرية واسعة لتمشيط البادية وتقول إنها حققت أهدافها، إلا أن الواقع على الأرض مختلف فالتنظيم يواصل تنفيذ هجماته البرية على قوات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية وحتى القوات الروسية في البادية، وقد أخذت هجماته بعدا جديدا بعد أن بات يستطيع قطع طرق الإمداد للنظام على الطريق الواصل بين الرقة ودير الزور ودمشق وحمص.
ووفق مراقبين، فإن التنظيم أنشأ شبكة واسعة من الأنفاق في البادية التي تتميز بتضاريس تساعد على التخفي والاختباء بين جبالها وكهوفها، ما جعلها -البادية- تشبه الثقب الأسود في أطراف صحراء واسعة تربط شرق حماة وجنوب الرقة وجنوب دير الزور وحمص وصولا إلى درعا.
تلفزيون سوريا