تصنف محكمة الجنايات الدولية استيلاء عسكري مسلح على رغيف خبز من مدني في مناطق نزاع مسلح على أنه جريمة حرب غير جسيمة، كما تسمي الاعتداء على جثث الموتى جريمة حرب، ومثلها تجنيد الأطفال، وغيرها من الجرائم، فماذا نسمي حصاراً يفرضه جيش بلد على مواطنيه، ويرفع شعاراً “الجوع أو الركوع”؟! وماذا نسمي بالمقابل ما جرى في الغوطة الشرقية، عندما يعتدي جيش على مواطنيه بالكيماوي، ويمطره بالبراميل المتفجرة والقنابل والصواريخ المحرمة دولياً؟! وماذا نطلق تسمية على تهجير أكثر من عشرة ملايين، وعلى مئات آلاف المعتقلين والمفقودين والمعوقين، والضحايا الذين تجاوز عددهم مليون إنسان؟!
ارتكب النظام السوري آلاف المجازر بحق شعبه الأعزل، وعلى مدى سنوات تجاوزت العشر مارس كل الجرائم التي يمكننا تصنيفها بجرائم الحرب بدءاً بالجرائم العادية وارتقاءً إلى الجرائم الجسيمة، والتي من المفترض أن تقوده إلى محكمة الجنايات الدولية، لكن من يستطيع أن يقوده صاغراً إلى هذه المحكمة، التي تأسست من أجل تحقيق العدالة؟! على ما يبدو أن النظام السوري استطاع وبمساعدة دول نافذة أن يفلت إلى حينه من المحاسبة والعقاب، ولم تستطع الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة العفو الدولية ومحكمة الجنايات الدولية أن تحقق ولو الحد الأدنى من العدالة للسوريين الذين تعرضوا لكل أشكال الانتهاكات بدءاً من الرغيف والحصار وتدمير المدن وصولاً إلى الاعتداء على جثث الموتى ونبش القبور، وحتى صور قيصر الخمسة وخمسين ألفاً لم تثمر سوى عن قانون لا يقدم ولا يؤخر في المضي قدماً في تحقيق العدالة، بل لم يؤدي إلى بصيص أمل في نفق السوريين المظلم.
إن عملية إحصاء بسيطة تقودنا إلى حفلة دم كبرى ارتكبت بحق السوريين على مدى سنوات تجاوزت العشر، وشارك فيها القاصي والداني، أكثرها دموية ما ارتكبه النظام المجرم، مروراً بدول الجوار، وتتويجاً بالدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا (حاملة لواء الحريات والديمقراطية)، التي قادت دولاً عدة في ما سمته التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وفي نظرة سريعة فاحصة نكتشف من خلال تدمير مدينتي الموصل في العراق والرقة في سوريا، أن نسبة الدمار تجاوزت 80% ووحدها مدينة الرقة دفعت أكثر 3000 ضحية في حفلة الدم هذه التي انطلقت في منتصف العام 2017، حيث لم تترك دول التحالف بأسلحتها الفتاكة طريقاً للنجاة، وأوقعت الناس بين خيارين، الأول الموت بقناصة داعش التي كانت تستخدمهم دروعاً بشرية، والثاني الموت تحت نيران قصف الطيران المدمر، أو بنيران مدفعية فرنسا وبريطانيا، والتي تقدر نسبة خطأها بنحو 100 متر بحسب تقديرات منظمة العفو الدولية والخبراء العسكريين، وفي وقت امتناعها عن توفير طرق آمنة لخروج المدنيين من دائرة الاشتباكات الحربية، ووفرت بشكل صريح وعلني خروجاً آمناً لعناصر داعش من الرقة تحت أنظار العالم.
من يحاسب أمريكا ودول التحالف عن جرائم الحرب المرتكبة بحق السوريين؟! لقد عجز المجتمع عن محاسبة النظام السوري سابقاً وإلى حينه، بل لم يستطع أن يحاسب قتلة الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق، علماً أن القاصي والداني يعرف من هم الجناة، وما هي دوافع الجريمة، بل أن المجتمع الدولي بمنظماته ومؤسساته وأنظمته الداعية للحرية والديمقراطية، يدرك جيداً من هم الجناة في سوريا، وما هي دوافعهم وأطماعهم.
إن معرفة الحقيقة وإدراك الدوافع والأهداف هي المقدمة واللبنة الأولى في طريق تحقيق العدالة، وأعتقد أن الوقت قد حان للسير بالجناة إلى محكمة الجنايات الدولية، ليس لأن إرادة السوريين أقوى، بل لأن الحق أقوى، وستظهر الحقيقة عاجلاً غير آجل، وسيبدأ مسلسل السقوط، بدءاً بالأفراد والمؤسسات وانتهاء بالدول الفاعلة في الملف السوري، الذي بلغ منتهاه في حفلة الدم الكبرى.